من عاصمة الرأسمالية .. ( الشيوعي) زهران ممداني يقود قطار الثورة والتغيير

بغداد- العراق اليوم:

افتتاحية جريدة الحقيقة

فالح حسون الدراجي

لم يكن فوز الشاب اليساري الإشتراكي المهاجر زهران ممداني برئاسة بلدية نيويورك حدثاً انتخابياً عابراً، بل تحوّلًا ثقافياً وسياسياً واجتماعياً يتجاوز حدود هذه المدينة الأمريكية المتخمة بالمال، ليصل غداً دون شك إلى ديترويت وأريزونا وشيكاغو وتكساس وفرجينيا ولوس أنجلس وبقية الولايات الأمريكية، بل سيمتد أيضاً إلى المكسيك وأمريكا الجنوبية و أوربا وأفريقيا وآسيا وبقية دول العالم.

ولعل المدهش في الأمر ان زهران ممداني، الأمريكي الشاب من أصل هندي، وصاحب الـ34 عاما، والمسلم المهاجر، لم يفز على الحزب الجمهوري وعلى دونالد ترامب الذي هدد وتوعد فحسب..إنما فاز أيضاً على حزبه -الحزب الديمقراطي- وعلى بايدن وكامالا هاريس كذلك.. فحزبه الديمقراطي لم يدعمه بشكل مقبول، وكان منافسه الأول هو الحاكم الديمقراطي السابق..وهنا جوهر الحلم الذي يراود الشباب الأمريكي، فالشباب الذين صوتوا لزهران في نيويورك - وأغلبهم أعضاء بالحزب الديمقراطي - لم يصوتوا له شخصياً فقط، إنما صوتوا أولاً للمبادئ الطبقية والاجتماعية الجديدة التي يحملها، وصوتوا لثورة التغيير التي يقودها هذا الشاب الذي يلقبه ترامب بـ (الشيوعي)، وهذا ما يخيف ويقض مضاجع أركان الرأسمالية في العالم وليس في نيويورك وأمريكا فقط، لاسيما بعد إعلان ممداني يوم الثلاثاء الماضي، أن فوزه الحاسم سيفسح الطريق لهزيمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومن يقف معه وخلفه في مشروعه اليميني  الاستغلالي، وأن فوزه يمثل انتصار “الأمل على الطغيان”، مؤكدا أن “نيويورك ستكون النور في هذا الوقت من الظلام السياسي”.

ولعل ما يرعب الطغمة الاقتصادية والسياسية المتنفذة في الولايات المتحدة أن هذا الشاب المثقف واليساري ( جداً )، الذي يجيد التمثيل والغناء ويرقص مع الشباب على أنغام الراب والهيب هوب، ويأكل معهم في المطاعم الشعبية، ويتحدث أربع لغات أجنبية، ويقود التظاهرات دفاعاً عن الحق الفلسطيني بقوة، رغم أن اليهود يشكلون الطائفة الأكبر في نيويورك، و ما يخيف ترامب وطغمة المال والسياسة أكثر ، أن زهران فاز بمنصب فيه ميزانية تقدر بـ116 مليار دولار .. !

إن ثورة التغيير التي يقودها ممداني انطلقت وبدأت من رفض النفوذ الرأسمالي داخل حزبه الديمقراطي، وتحطيم القيم البالية التي يتحصن خلفها قادة حزبه أمثال أوباما وبايدن وكامالا وكلينتون وغيرهم.. لذلك تمرد عليهم، واعلن عن ترشيح نفسه رغماً عن قرار الحزب الديمقراطي الذي مضى إلى ترشيح ديناصور من ديناصوراته العتيدة .. لكن شباب الحزب ساندوا زهران ممداني ووقفوا معه ومنحوه اصواتهم، ففاز أولاً بأصوات الحزب الديمقراطي ليمضي بعدها إلى مواجهة مرشح ترامب (الجمهوري) كورتيس سليوا، والمرشح المستقل والحاكم السابق لولاية نيويورك أندرو كومو ويسحقهما أيضاً.. 

وأول فئة شكرها ممداني في خطاب النصر كانت فئة العمال بمختلف الجنسيات والعرقيات في مدينة نيويورك.. وفي هذا إشارة واضحة إلى ( طبقية) الرجل رغم أنه من عائلة ميسورة.. فوالدته ميرا ناير، مخرجة سينمائية مرموقة، ووالده الأكاديمي محمود ممداني مدرس في جامعة كولومبيا، وكلا والديه من خريجي جامعة هارفارد ويتمتعان بوضع مالي جيد، لكن ابنهما نما بين العمال والمهاجرين الكادحين ، ورأى بأم عينيه ظروف معيشتهم القاسية، فانحاز طبقياً واجتماعياً لصالحهم،

ومما أخاف الحزب الجمهوري اليميني، ان ممداني الاشتراكي، لم يفز وحده، إنما فازت معه مرشحتان ديمقراطيتان بمنصبي الحاكم في ولايتي فرجينيا ونيوجيرسي، مما يعطي التيار الثوري بالحزب الديمقراطي زخما كبيرا مع تطلعه لانتخابات التجديد النصفي للكونغرس العام المقبل.. لقد اختصر زهران حملته بتصريحات واضحة جريئة لشبكة “بي بي سي” قائلاً : “يعاني حوالي ربع سكان هذه المدينة من الفقر، وهناك نحو 500 ألف طفل ينامون جائعين كل ليلة. وفي نهاية المطاف تبقى مدينة نيويورك مهددةً بخسارة ما يجعلها متفردة ومميزة”، واقترح ما يلي:– خدمة مجانية للتنقل بالحافلات بين جميع أنحاء المدينة.

– تجميد الإيجارات وتشديد المساءلة على المالكين المقصرين.

– إنشاء سلسلة من متاجر البقالة المملوكة للمدينة تركز على توفير أسعار في متناول المستهلك.

– رعاية شاملة ومجانية للأطفال من عمر ستة أسابيع حتى خمسة أعوام.

– مضاعفة إنتاج المساكن مستقرة الإيجار والمبنية بأيدٍ نقابية – ثلاث مرات.

– إعادة هيكلة مكتب العمدة لضمان محاسبة مالكي العقارات، إلى جانب – توسيع نطاق الإسكان الدائم بتكلفة في متناول المستهلك.."

وحين أنهى  زهران كلامه، علق عليه الصحفي بقوله: إن ما عرضته في هذا البرنامج يمثل رؤية شيوعية !!

فضحك وقال زهران: لا لا، هذه رؤية اشتراكية محضة، وإذا تريد أن تنضم لرؤية ترامب العدائية، وتصفني كما وصفني بالشيوعي، فهذا الأمر يعود لك..!

ثم استدرك زهران متسائلاً: إذا كانت هذه البرامج تمثل رؤية شيوعية، فما الضير منها؟!  ثم قال: دعنا نترك الأمر للتاريخ، وأنا واثق من حتميته ..

وقبل أن أختتم مقالي هذا، دعوني أسلط الضوء على ما قاله زهران ممداني عن التاريخ و( ثقته بحتميته) .. فالحتمية التاريخية لمن لا يعرفها هي ركيزة صلبة  من ركائز النظرية الماركسية ..

 وكارل ماركس لم يتبن فكرته الفلسفية المعروفة بالحتمية التاريخية اعتباطاً، ولم يعتمدها صدفة، كما لم يتنبأ بها في لحظة تجل، فالرجل ليس (متنبئاً ) ولا عرافاً، إنما هو فيلسوف فذ، وناقد عظيم للاقتصاد السياسي، ومؤرخ وعالم اجتماع، ومُنظر سياسي، وصحفي، وقائد ثوري اشتراكي، وقد درس القانون والفلسفة في جامعتي بون وبرلين اللامعتين، وكان لفكره السياسي والفلسفي تأثير هائل على التاريخ الفكري والاقتصادي العالمي.. لقد اعتقد ماركس أن مسار التاريخ محدد من خلال الصراع الطبقي والهياكل الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع، وفقًا لمفهوم أسماه المادية التاريخية. 

إذ يرى ماركس أن التاريخ يتقدم عبر خمس مراحل متتالية أسماها بالترتيب : (بدائية، عبودية، إقطاعية، رأسمالية، واشتراكية) مدفوعة بالصراع بين الطبقات الاجتماعية، خاصة بين الطبقة الحاكمة والطبقة العاملة.

ويعتقد ماركس أساساً أن التناقضات الداخلية في الرأسمالية، ستؤدي إلى ثورة شعبية تطيح حتماً بالنظام الرأسمالي وتؤسس للمجتمع الاشتراكي، حيث "يستند ماركس في تحليله إلى أن العامل الاقتصادي هو المحرك الأساسي للتاريخ وتشكيل المجتمعات ومؤسساتها"..

وهذا ما حصل في نيويورك وفرجينيا ونيوجيرسي، وغداً سيحصل في ديترويت وشيكاغو وبقية الولايات الأمريكية، وبلدان العالم الرأسمالي ..  فالتناقضات الداخلية في النظام الرأسمالي كثيرة وكبيرة، وهي كفيلة بإسقاطها من الداخل حتماً..!

فهل سيكون فوز (الشيوعي) المسلم زهران ممداني بمثابة الشرارة التي ستحرق النظام الرأسمالي؟.