بغداد- العراق اليوم:
افتتاحية جريدة الحقيقة
فالح حسون الدراجي
قرأت في إحدى الصحف الكويتية قبل أيام قليلة خبراً مفاده أن إحدى المحاكم في دولة الكويت اصدرت قراراً بحبس وزير الداخلية والدفاع السابق الشيخ طلال الخالد 14 سنة في قضيتَي اختلاس مال عام، كما ألزمته ذات المحكمة بإعادة مبلغ الاختلاس وقدره 10 ملايين دينار كويتي أي ما يعادل 35 مليون دولار أمريكي، أما غرامة الاختلاس التي سيدفعها المتهم، فقيمتها تساوي ضعف مبلغ الاختلاس، أي حوالي 20 مليون دينار كويتي، وهو ما يعادل 70 مليون دولار أمريكي.. علماً أن إعادة مبلغ الاختلاس، ودفع الغرامة المترتبة على الجريمة لا تعفيانه من عقوبة السجن المقررة.. وهذا يعني ان الدولة الكويتية لم تطلب من هذا الوزير المحكوم إعادة بعض الاموال الى الخزينة، ومن ثم تقول له ( الله وياك عبوسي) مثلما فعلت دولتنا مع المدان "نور زهير "، كما لم تطلق سراحه بكفالة كما حدث مع المدانين في صفقة القرن في العراق !!. ولأن الوزير الكويتي الذي نال كل هذه العقوبات هو احد أبناء العائلة الحاكمة، التي بيدها الدولة والمال والحلال والقضاء، فقد شككت بصحة الخبر في بادئ الأمر، ورحت أبحث في المزيد من الصحف والإذاعات والقنوات الفضائية الكويتية والعربية، لأتأكد بنفسي، بعد أن وجدت في الأمر شيئاً غير طبيعي، إذ كيف لي أن أصدّق أن مثل هذا الأمر الحضاري يحصل في بلد صغير جداً، عنوانه (مشيخة)، ورئيسه يسمى (شيخ)، بينما لا يحصل مثل ذلك في بلد كبير وعظيم مثل العراق، له تاريخ حضاري يشع في كل مفردات الكون البشري ؟! ومما زاد في شكي أن هذا الوزير يحظى بهيبة ونفوذ، وله (رنة وطنة) في بلاده، خاصة وأنه تولى حقيبتين وزاريتين مهمتين جداً هما الدفاع والداخلية الكويتية فضلاً عن منصب نائب رئيس الوزراء وغير ذلك من المناصب والمواقع !! وكم كان الأمر مفاجئاً لي حين وجدت أن هذا الخبر صحيح (مية بالمية) ..! ولا أخفي عليكم، فقد شعرت بالحزن والالم والغيرة أيضاً، بعد أن اتضح لي عبر تنفيذ هذا الاجراء القانوني الشجاع، سعة الفارق في العدالة و (الحضارة) والمساواة بين الكويت والعراق، رغم ان الكويت حديثة العهد، حتى يقال إن مطعم ( باچة الحاتي) في بغداد أقدم من دولة الكويت، وإن عمر محل (شربت حجي زبالة) في شارع الرشيد أكبر من عمر دولة الكويت بسبع وستين سنة!. وطبعاً فإن القارئ الكريم - حتى لو لم يكن عراقياً - ليس بحاجة إلى أن أحدثه عن حضارات العراق التي تعد من أول مراكز التنوير الحضاري، وسن قوانين العدل في العالم، إذ بمجرد ذكر سومر وأكد وبابل وآشور وكلدان، وحمورابي، سيعرف القارئ من هو العراق وما عمقه التاريخي، وكم عمر الحضارات ببلاد الرافدين. لقد شعرت بالخيبة فعلاً وأنا اتأكد من صحة الخبر، إذ كيف يسجن ويغرم أحد شيوخ (مشيخة) الكويت بهذه الأحكام والغرامات الثقيلة، بسبب اختلاسه عشرة ملايين دينار كويتي فقط، أي ما يعادل خمسة وثلاثين مليون دولار أمريكي، بينما يطلق سراح واحد ( هلفوت ) سرق مليارات الدولارات من خزينة بلاد الحضارات العظيمة التي أرشدت البشرية إلى طريق العدل والنور، وسنت القوانين في زمن لم يكن فيه أحد يعرف معنى العدل والقضاء في التاريخ..! لقد رحت أضرب في سرّي الأخماس بالأسداس، وأسال نفسي بوجع وقهر عسى أن أعثر على جواب مقنع، فأقول: كيف يمكن أن يحدث هذا، وهل ثمة خلل في التاريخ، ام أن الخلل بقوانين المنظومة الكونية، وإلا كيف تتحقق هذه العدالة في بقعة متأخرة ولا أقول متخلفة تاريخياً وحضارياً وبنيوياً، ولا تتحقق في دولة باهرة، ازدهرت فيها الحضارة والعدالة والجمال والثراء قبل ان ينبثق الجمال والعدل في كل أرض الله؟! وهل باتت الديمقراطية والقوانين المؤسساتية في حكم قبيلة ( آل صباح ) أعلى كعباً وأرقى وعياً وتنفيذاً من نظام الحكم في دولة عريقة ومضيئة، وذات عمق حضاري وثقافي، كانت تسمى يوماً ما بلاد ما بين النهرين ؟! و السؤال الذي أدهشني أكثر.. هو لماذا لم يتدخل أمير الكويت وينقذ اسم وسمعة ابن عمه المتهم، لاسيما وأن القانون الكويتي يسمح لأمير البلاد إصدار العفو أو إيقاف الاجراءات القانونية، أو حتى ايقاف المحاكمات قبل وقوعها، لكنه لم يستخدم هذه الصلاحيات ويحمي ابن عمه في قضية فساد مالي.. والسؤال المكمل لذات السؤال السابق، هو لماذا لم يتوسط كبار (آل صباح) لمصلحة واحد من أبرز وجوه الأسرة ، وهي التي بيدها مفاتيح الحل والربط، بينما في العراق، يستطيع رئيس الحزب السياسي الحاكم، أو زعيم الكتلة أو التحالف، التدخل، بل وإبطال تنفيذ أي قرار يتخذه القضاء العراقي ضد أحد اعضائه أو أيّ من أقاربه او مؤيديه كما حدث بقضية صفقة القرن التي خرج منها (الأبطال) وهم يمدون ألسنتهم لنا ساخرين و هازئين بنا وبكل ما نتبجح به من كلام فارغ حول الحضارة والتاريخ والعدل والقوانين ومسلة حمورابي وغير ذلك من الكلام الذي لا فائدة منه .. وكأن (نور زهير) وجماعته الأشاوس يقولون لنا : طز بيكم وطز باعتراضاتكم الفاشوشية ! والسؤال الأصعب، هو لماذا يسجن الحرامي في كل بلدان العالم، بينما يكرم ويحترم في العراق، ويضرب له (سلام خذ ) ؟! وهنا أريد أن أشير إلى أني أثق جداً وأحترم جداً القضاء العراقي، لكني لا أثق بذئاب السياسة في العراق، ولا أحترم حيتان المال والسلاح في بلادنا ! ختاماً أود ان أعترف، واعتذر أيضاً لدولة الكويت، حكومةً وقضاءً وشعباً: وأقول لهم : شكراً لكم، لقد لقنتمونا درساً اخلاقياً وثقافياً وإنسانيا كبيراً، بل إنكم صدمتم رؤوسنا الجوفاء بجدار فعلكم الجسور هذا، لأن ما قمتم به بحق وزيركم الفاسد الشيخ طلال الخالد الصباح، سواء بحبسه وبهذلته بالمحاكم أو بتغريمه غرامات باهظة لهو درس حضاري عظيم تفشل في تحقيقه أكبر الدوال ( الحضارية ) في التاريخ، مما أكسبكم احترام العالم، لتكتبوا على سبورة الزمن سطوراً تقول: ( إذا كان مطعم باچة الحاتي، وشربت حجي زبالة في بغداد الرشيد أقدم من بلدنا الكويت، فإننا نقول بفخر وثقة إن عدالتنا في دولتنا الكويتية الصغيرة أكبر وأعظم وأنفع من حضارتكم أيها الأشقاء العراقيون ..) ..!
*
اضافة التعليق