رسالة أُمٍّ ( عمارية ) .. !

بغداد- العراق اليوم:

افتتاحية جريدة الحقيقة

فالح حسون الدراجي

بعد ظهور نتائج الإنتخابات النيابية بشكل رسمي امس، يفترض بي أن أكتب  مقالي هذا عن الكتل والتحالفات الفائزة والخاسرة، وأحلل بلغة الأرقام ما يترتب على هذه النتائج من أوضاع.. 

لكني لم أستطع فعل ذلك، فقد كنت ولم أزل مأخوذاً بدهشة الأجواء والصور الإنسانية الباهرة التي أظهرتها شاشات التلفاز المحلية والدولية عبر عدساتها المنتشرة في جميع مراكز الانتخابات ..  ثمة صور ومشاهد دراماتيكية لا يمكن لأي إنسان تجاوزها دون توقف، فما بالك بشاعر عاطفي، و ( دمعته بطرف العين بس يرمش تطيح ) ؟!!

دعونا من السياسة اليوم، ومن نتائج الإنتخابات، وخلونا في وجدانية الشعر والنقاء والأمومة العراقية..

واسمحوا لي أن أكتب لكم عن صورة رأيناها جميعاً.. صورة سرقت الأضواء من مراكز الانتخاب، وفرسان المفوضية، والمراقبين الدوليين، ورموز الإنتخابات وقادة الكتل.. وعموم نجوم السياسة.. وأخذت ( الجو ) من الذين ظنوا أن الأجواء ستكون لهم وحدهم،  حين يدخلون مراكز الانتخابات بأناقتهم المفرطة وبدلاتهم الباهظة و( فخفختهم ) العالية، فتلاحقهم عدسات المصورين، وميكروفونات المراسلين، لكن هذه الصورة، هزمت ببساطتها صور و (مصوري) جميع السياسيين الكبار والصغار، ويقال إنها حققت أرقاماً لمشاهدات مليونية عديدة في وقت قصير للغاية .. صورة لامرأة طاعنة في السن، مزدحمة بالسواد، مكتنزة بالبساطة والنقاء والشرف والطيبة الجنوبية.. صورة لأم ( متعبة) يدفعها ولدها بحنان نحو باب المركز الانتخابي.. وكان جميع من في المركز ينظر لهذا الولد البار بتعجب واحترام، فهذه أول مرة في تاريخ السياسيين العراقيين وغير العراقيين يصطحب رئيس الدولة أمه إلى مراكز الإقتراع، إذ العادة أن يأتي المسؤول ومعه ( المدام ) الغارقة بالذهب والألماس والأشياء المكملة الأخرى.. لكن محمد شياع السوداني فعل الاستثناء وجاء مرافقاً لأمه في صورة هزت العراق من أقصاه إلى أقصاه، وصارت حديث الناس في البيوت والمحلات العامة. 

 ولعل الشيء الذي لفت الانتباه، أن السوداني دخل مع أمه قاعة التصويت باسماً وفخوراً للغاية وكأنه يعلق وساماً على صدره.. وقد لا يعرف الكثيرون أن ( أم محمد ) وسام فعلاً، وسام (مقدس) أغلى من كل أوسمة الدنيا. فهي أم أولاً، والجنة في أدبياتنا الإسلامية ( تحت أقدام الأمهات)، ضف إلى ذلك أن لأم محمد شياع أسباباً تمزق القلب، وتاريخاً لم يترك لها مجالاً لضحكة أو ابتسامة واحدة.. ووجعاً يفترض بمن يريد أن يكتب عنها بصدق، عليه الكتابة بحبر الدمع الأسود وليس بحبر آخر.. ولأن أم محمد شياع تشبه أمي في كل شيء، بات لي الحق أكثر من غيري بالحديث عنها، ولها الحق أكثر من غيرها بالكتابة والحديث.. فهي وأمي صنوان متشابهان جداً، كلتاهما شربتا كأس الفجيعة من يد واحدة، فهذه أعدم صدام زوجها، وتلك أعدم صدام ولدها ..! وكلتاهما جنوبيتان جداً، وعماريتان من الوريد إلى الوريد .. وكلتاهما قويتان، وعنيدتان، و (صبورتان)، رغم نهري الحنان والعذوبة اللذين ينبعان من قلبيهما الطيبين حد الدهشة .. ورغم قوتيهما، فإن أمي، وأم ( الرئيس ) لم تتخلصا من هواجس رعب السلطة البعثية حتى بعد سقوط النظام الدكتاتوري، إذ يقال إن أم محمد وحتى هذه اللحظة لا تغمض لها عين قبل أن تطمئن لعودة ابنها الى البيت ، رغم أن ابنها كبر ، وأصبح رئيساً للوزراء ، بل أصبح (جد) والشيب يملأ شعره.. وكذلك أمي التي ظلت خائفة على اولادها حتى يوم رحيلها المفجع..! 

لذلك لا أحد يعرف أم محمد شياع السوداني كما نعرفها نحن، (شركاءها ) في الهم والحزن والدمع والعوز، ومصائب الدهر والفقد والظلم والرعب التي لها أول دون آخر !!

ولأن في صورة ام محمد وهي تتجه في العربة نحو مركز الانتخاب معاني وصوراً ورسائل متداخلة عديدة، حتى ليحار المرء إلى أية صورة ورسالة ينتبه وينظر.. أينتبه لرسالة الأمومة التي وجهتها هذه الأم الجليلة إلى الناس، وكأنها تقول لهم بشكل غير مباشر  : أيها الآباء والأمهات حافظوا على أولادكم مثلي، وأبقوهم بين حدقات عيونكم وقلوبكم، كونوا معهم ولا تتركوهم حتى لو ذهبوا للتصويت !

أم ياترى ننتبه إلى الرسالة التي أرسلتها لابنها وفلذة كبدها رئيس الوزراء، وكأنها تريد أن تقول له: لقد حميتك يامحمد وأنت طفلاً، وساندتك وانت شاباً، واليوم أقف معك حتى وأنت رئيساً للوزراء !!.

أقول هذا الكلام وأنا اعرف أن أم محمد ليست سياسية، بل ربما هي تكره السياسة بعد إعدام زوجها، وترملها وهي في عزّ شبابها، لتنقطع الى أطفالها، لاسيما وأن أكبرهم ( ابنتها البكر )   كانت في الحادية عشرة من عمرها، ومحمد ( ابنها البكر) كان بعمر العاشرة، بينما بقية الأطفال كانوا أصغر منهما، فذاقت معهم مرارة السياسة مبكراً، لكن ماذا ستفعل هذه السيدة المكلومة، إذا كان ولدها وفلذة كبدها قد سار على ذات خطى أبيه ؟!

إذاً، فقصة هذه المرأة التي ظهرت بتلك الصورة في انتخابات العراق، وفازت على كل الصور الأخرى، لا يعرفها سوى من عاش محنتها، وتذوق مرارة فجيعتها، وعانى معاناتها .. وهي بهذا الأسى الطويل والمتوارث، تستحق أبجدية خاصة وتقديراً خاصاً، ولغة خاصة، ومزاجاً خاصاً، ومخيلة حية، مترعة بالصور، و الذكريات النبيلة لكي تنثر على ورق المقال، وهذا يعني الكتابة عنها بلغة شعرية، ومزاج شاعر تذبحه دمعة أم مكلومة،

وتخنقه صرخة طفل يتيم، ويبكيه عصفور مكسور الجناح تعطل عن التحليق..

 لذا سأكتب هذا المقال بنفس وجداني، متجرداً من كل هواجسي ورغائبي وأهوائي ومبتغياتي و إشكالاتي مع نفسي والدنيا والآخرين .. أكتبه لوحدي لا دليل يقودني في تضاريس كتابته الموحشة سوى ضميري الساطع بأقمار المحبة والصدق والجمال العراقي الفاتن  .. وها هو قلبي يمسك بالقلم، ويكتب عن الصور الباهرة التي عرضتها شاشات العالم، وعدسات الكاميرات

المحايدة، التي التقطت ما لا تراه العيون السياسية والمصلحية المتحيزة.. ويمسك ضميري بالقلم أيضاً ليكتب عن المواقف الباذخة في الدهشة والروعة والعجب والإبهار ..  تلك المواقف التي رأيتها أمس ( تمشي على قدم )،  نحو  مراكز الإقتراع لتصوت وحسبها أنها تصوت للعراق وليذهب صوتها بعد ذلك إلى أي مرشح كان، فنتيجته تذهب إلى صندوق العراق الكبير حتماً، وكما قال عمر بن الخطاب أو  ربما هارون الرشيد - لست متأكداً  من منهما قالها- : 

"امطرِي أينما شئتِ، فإنّ خراجكِ يأتيني".

لقد رأيتهم أمس بعين فالح الفتى النقي، البريء، الأبيض، الذي لم تلوثه السياسة ولا أموال الدنيا.. رأيتهم بفخر كبير وهم يتسابقون على التصويت ، وبينهم رأيت أم محمد شياع تمرّ مثل شعاع يبرق، فتذكرت أمي، (أم خيون)، شريكتها في محنة الفقد والأسى، رغم أنهما لم يلتقيا قط.. رأيت أم محمد، فبكيت على أمي، ورفعت يدي بالدعاء لهذه السيدة العمارية الجليلة، وأمنيات لها بالخير والعافية والعمر الطويل.. فهذه السيدة التي هزت العراق كله أمس، وأصبحت ( ترند)، لم تكن أماً لليتيم محمد شياع وأخوته فحسب، إنما هي بمثابة الأم لكل اليتامى في (العمارة)، بل و العراق كله.