عبادي العماري عبد الحليم المدينة وعندليبها  الأسمر

بغداد- العراق اليوم:

افتتاحية جريدة الحقيقة

فالح حسون الدراجي

عندما تسلّمنا في مطلع ستينيات القرن الماضي، سندات تمليك الأراضي الممنوحة لنا في مدينة الثورة بفضل شهامة وغيرة ووطنية وإنسانية الزعيم عبد الكريم قاسم دون غيره، كانت المدينة عبارة عن أرض جرداء ليس فيها خدمات ماء ولا كهرباء ولا شوارع معبّدة ولا حدائق غنّاء، كما تفتقد المدينة للخدمات العامة كالمدارس والمستشفيات ودوائر الدولة الحكومية وغيرها.. لكن وبفضل الزعيم أيضاً تم تنفيذ بعض هذه الخدمات بشكل سريع، فالتبليط مثلاً وصل إلى ساحة الـ 55، وبالمناسبة فإن ساحة الـ 55 قد سميت بهذا الاسم نسبةً إلى باص رقم 55 الذي كان ينطلق من ساحة جمال عبد الناصر في الصالحية إلى نهاية الچوادر تقريباً، لكنّ الإنقلاب البعثي الأسود في شباط 1963، واستشهاد الزعيم قاسم أوقف البناء والإعمار وكل الخدمات الأخرى، فتوقف التبليط عند تلك الساحة، وكان من الطبيعي أن يتوقف الباص الحكومي عندها، ويظل الشارع مقطوعاً، وحركة سير الباص مبتورة لأكثر من عشر سنوات بعد استشهاد الزعيم قاسم !!

علماً أن عدد السيارات الخاصة في المدينة آنذاك لم يتجاوز المائة سيارة في حين أن عددها اليوم قد تجاوز المليون مركبة !

إن تلك المعاناة وتلك الظروف القاهرة جعلت أبناء المدينة في معزل عن أخوتهم في مناطق بغداد الأخرى، وقد زاد في حدة العزلة، وجود قناة مائية فاصلة بين حدود مدينة الثورة وبقية مناطق بغداد، طولها 23 كيلومتراً ونصف، وعرضها ثلاثة أمتار، وعمقها متران ونصف، وقد افتتحت القناة في 15 تموز العام 1961.. ولعل وجود هذه القناة المائية الفاصلة، قد عمّق شعور العزلة نفسياً، فكان من الطبيعي ان تنتج المدينة أشياءها بنفسها، وتصنع حاجياتها بيديها، وتتعلم على تدبير حالها بحالها دون الاعتماد على غيرها، خاصة وأن وسائل التواصل كانت ضعيفة جداً، إذ يقال إن في جميع منازل مدينة الثورة آنذاك عشرة تلفونات فقط.. !

أذكر أن المدينة بدأت في زراعة المساحات الكبيرة من الأراضي في منطقة الشلبة والكرابة واستغلال محصولها، فأنشات لأجل ذلك المطاحن الشخصية الصغيرة لطحن الحنطة.

فمثلاً كانت في قطاعنا / قطاع 43 / مطحنة الحاج شندي العقابي رحمه الله، ومثلها في مواقع أخرى بالمدينة.. لذا لم نكن بحاجة كبيرة إلى طحين (بغداد) او طحين المحافظات الأخرى، إلا في فترات معينة قليلة.. كما كانت المدينة تعد وتنتج وتوفر أغلب مواد معيشتها الأخرى، حتى مواد البناء كالطابوق والجص، كانت المدينة تنتجه في منطقة المعامل فضلاً عن توفر البنّائين والعمال في ذات المدينة.

واستكمالاً لذلك، سعى شباب الثورة لإنشاء ملاعب شعبية في مناطقهم، حتى أن الرياضيين الراحلين عبد الواحد حاتم وسيد حبيب العلاق وأبو الوليد وعلي اللامي أسّسوا ملاعب خاصة في مناطقهم، استقطبت مئات الالاف من اللاعبين والمتفرجين، وساهمت بشكل كبير في سد فراغ حياتهم الناتج عن البطالة، والعزلة عن ملاعب بغداد.

وللجانب الفني مساهمة كبيرة في توفير المتعة البريئة لأبناء المدينة، وفي توجيه الشباب نحو إبراز مواهبهم في الميدان الفني، وتحقيق رغباتهم وطموحاتهم وأحلامهم عبر منافذ المدينة دون غيرها.. فكان من الطبيعي أن يبرز عشرات المطربين والعازفين والممثلين والرسامين وغيرهم، فالشاعر الغنائي كان واحداً من أبناء المدينة، و كذلك الملحن والمطرب والموسيقي، ناهيك من ان الإستوديو الذي يسجل فيه المطرب أغنيته كان موجوداً في المدينة أيضاً، وقد برزت أسماء ساهمت بشكل كبير في تسجيل وبث ونشر الإنتاج الغنائي المحلي امثال الراحلين حميد العبودي وعلي صالح ومطشر مجيد ابو حكمت، ومن ثم كريم العبودي وصباح الخياط أطال الله في عمريهما.. ومن هنا برز عدد كبير من المطربين، الذين صاروا نجوماً لامعة في سماء مدينة الثورة.. وخارجها أيضاً، بفضل الكاسيت الذي كانت تصدره المدينة لمناطق بغداد وبقية المحافظات، وفي مقدمتهم يأتي الفنان الأسمر عبادي العماري.. وللحق، فقد كان عبادي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مطرب شباب مدينة الثورة الاول، قبل أن يشتهر في البصرة والعمارة والديوانية بل وحتى في الأهواز وعبادان والمحمرة والكويت..

لقد كان عبادي بمثابة عبد الحليم حافظ المدينة وعندليبها الأسمر، حتى كنا نحن (الفتيان العشاق) نحفظ أغانيه ونرددها، ونبعث كاسيتاتها إلى حبيباتنا مع منديل أبيض وشيشة عطر صغيرة تعبيراً عما في صدورنا من حب وأشواق، وبالمقابل فقد كنا نتلقى من حبيباتنا مثل ما أهديناهنّ أيضاً، وقد اشتهرت وقتها أغاني (بنت جبار وغض النظر عني وروح وگلبي مو محطة) ولاحقاً اشتهرت أغنية (سامحيني) التي لحنها الراحل عودة فاضل .. لقد كان عبادي مختلفاً عن كل مطربي جيله، فهو متعلم وقارئ جيد، وله قدرة على كتابة الشعر والتلحين، مما جعله يقدم أغنيات هادفة ذات معانٍ إنسانية اجتماعية سامية، مثل أغنيته (فصلية) التي عالجت مشكلة (الفصلية) - المصيبة التي سحقت حياة الاف النساء في المجتمعات العراقية العشائرية !!

 وعبادي يملك صوتاً شجياً  وأُسلوباً غنائياً ساحراً، وله طور وأداء خاص يختلف عن أطوار المطرب سلمان المنكوب، وأداء المطرب حسين سعيدة وأُسلوب سيد محمد، ومدلل وسيد جليل وكاظم شنينه ..

ختاماً أذكر هذه السطور لتأكيد تميز عبادي بين شباب مدينة الثورة آنذاك، حيث سألت قبل أيام صديقي ابن المدينة، وأحد رموزها، القاضي قاسم العبودي، حول عبادي العماري أيام زمان، فقال ضاحكاً: "خويه ترى آنه هم چنت مثلك بأول شبابي، من اسمع بالليل عبادي يغني بعرس، نروح له آني وجماعتي حتى لو يصير بآخر القطاعات .. وعلى صوت السماعات نروح وراه "  ..!

نعم عزيزي القارئ، فقد كان لنا مطربونا، ومنجزنا، وسحرنا، وألقنا الإبداعي الخاص، بحيث لم نكن بحاجة إلى سماع أغاني غيرنا بل ولم نكن نعترف بها حتى ..!

المطرب عبادي العماري

 

علق هنا