عدوى الاستبداد

بغداد- العراق اليوم:

فاروق فياض 

إحدى الحوارات في رواية "مائة عام من العزلة" للروائي الكولومبي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1982 عن الرواية نفسها. بين اللواء مونكادا والعقيد اوريليانو بوينديا" لكن الذي يشغلني ليس إعدامي، ففي آخر الأمر، يجد من كان مثلنا من الرجال أن هذه الميتة ميتة طبيعية" ووضع نظارته على السرير ثم انتزع ساعته من سلسلتها وتابع قائلا:" الذي يشغل بالي أنك لطول ما كرهت العسكريين، لطول ما قاتلتهم، لطول ما فكرت بهم، انتهيت إلى أن صرت تشبههم من كل ناحية. ولا أجد في الحياة مثلا أعلى مثل هذا أهلا للاحتقار" ...." إذا استمريت على هذا المنوال فأنك لن تغدو اشد الديكتاتوريين ظلما وأكثرهم دموية في تاريخنا كله فحسب، وانما سوف تعدم عرابتي اورسولا كي تريح ضميرك". 

وهنا أتساءل هل الفترة الطويلة التي قضتها قوى المعارضة عندنا في محاربة فاشية البعث الصدامية جعلت الكثير منهم يشبهونها...! خاصة بعد ان أصبحوا في مواقع السلطة والمسؤولية؟ ولم يسلم حتى ابناؤهم من أن يكونوا نسخة أخرى من أبناء الدكتاتور بأشكال وطرق مختلفة. ويعود الفضل بذلك إن لم أكن مخطئا إلى اختيارات القوى الخارجية ودعمها من جهة، وللريوع النفطية ودورها في عملية المسخ المستمر والمعدي مع اعتذاري لـ"غريغور سامسًا" بطل رواية كافكا، وهي تستقطب من يزحفون ويتسلقون بشتى الوسائل حتى لو كانت على حساب كرامتهم وانسانيتهم، للجلوس على كرسي السلطة حتى وان كانت رئاسة قسم في دائرة او لعطاياها، ولا يستثنى من ذلك بعض النخب الثقافية والأدبية والفنية والأكاديمية وهي ترفع شعار (الغنيمة تبرر الولاء للبعث والقومية او للطائفية) وكفى المبدئيين شر العطايا والمناصب.

ما يثير الحيرة القدرة الكبيرة على النسيان الجمعي وتحول جزء كبير من ضحايا الدكتاتورية إلى ادوات قمعية شبيهة بالتي كانت تمارس عليها فعل القمع ولكن بأقنعة مختلفة.

كنت اعتقد بعد سقوط الدكتاتورية 2003 ان القادة الجدد سيتجنبون أبسط الاشياء وهي ثقافة الصور والجداريات في الشوارع والساحات العامة، تجنبا لما كان يشمئز منه العراقيون سابقا وهم يشاهدون صور الدكتاتور في كل مكان حتى وصل الاستهزاء في حينها إلى القول: المكان الوحيد الذي لم توضع فيه صورة" قائد الضرورة" هو المرحاض، ولكن للأسف ما يجري هو العكس.

كنت اعتقد انهم سيغادرون قاعدة النظام السابق (الأقربون أولى بالمناصب) لما لها من دلالات خطيرة لهيمنة الأسرة والعشيرة على الدولة، وهذا يذكر العراقيين بما عانوه من سيطرة أبناء وأخوة وأغلب عشيرة الدكتاتور على الدولة واستهتارهم بمصائر البلاد والعباد وما أوصلونا إليه، ولكن للأسف ما يجري هو العكس.   

كنت اعتقد أنهم سيظهرون قدرا من التواضع ولو على سبيل المجاملة لما عانيناه في الحقبة السابقة من تعالي المسؤولين وهم يسيرون بمواكب حماياتهم وهي تصول وتجول دون حسيب او رقيب في الشوارع مما يصيب المارة ومن يركبون السيارات بالرعب، وهم ينظرون الينا كعبيد وعلينا ان ننظر لهم كمخلصين، ولكن للأسف ما يجري العكس.

كنت اعتقد انهم لن يلجأون إلى آليات الدكتاتور الذي اعتمد على شقاوات بغداد بعد جمعهم من المقاهي والباسهم الملابس الأنيقة ومن الماركات الفاخرة ووضع تحت تصرفهم أحدث السيارات وكوّن منهم ميليشياته الخاصة لإرهاب المجتمع وتصفية المعارضين والخصوم، ولكن للأسف ما يجري العكس.

كنت اعتقد انهم سيكونون أقل شرها من الدكتاتور وأسرته وحاشيته في الاستحواذ على المال العام والعقارات بكافة اشكالها، وأكثر خجلا من استعراض بذخهم حفاظا على اقنعة التقوى، ولكن للأسف ما يجري هو العكس.

كنت اعتقد انهم سوف يستخلصون الدروس مما آلت اليه الدكتاتورية غير المأسوف عليها منهجا وشخوصا بعد ان أذاقت شعبها ما لا يمكن تصوره من ويلات القمع والحروب والحصار، واستقرت بثقة لا ينافساها بها أحد من دكتاتوريي الدول المجاورة بمزبلة التاريخ، ويتجنبون مصيرها، ولكن للأسف ما يجري هو العكس. 

كنت اعتقد باننا سنكون بذاكرة قوية تمنحنا القدرة على الكشف المبكر ومقاومة اي محاولة لإعادة الاستبداد باي شكل كان ونطوي صفحة التفكير المأزوم القائم على تقديس"السيد الرئيس" وان لا يكون هناك" قائد للضرورة" ولا" سيد للمكرمات" ولا" سياسي بالصدفة". وان التملق للمسؤول صفة قد أكل عليها الدهر وشرب ومن مخلفات الماضي الدكتاتوري. وأن الزبائنية سيجري الحد منها وتقويضها، كونها ليست جديرة بالثقة ومتلونة مثل الحرباء وبلا كرامة وهي الأرض التي ينبت عليها الاستبداد واليد الضاربة للمستبدين مهما اختلفت اشكالهم وافكارهم. وأن المسؤولين في مؤسسات الدولة مواطنون يتقاضون أجورا عن تقديم الخدمات للناس وليسوا أباطرة روما القدماء، وأن السراق لا يمكن ان يكونوا وطنيين ولا يمثلون سوى مصالحهم الخاصة ويُنبذون، وأن الكفاءة والنزاهة ستكون المعيار لثقة الناس وليس الانتماءات الفرعية، وأن ثقافة التنوير هي ما سيجري عليه الرهان لمعالجة التشوهات في الوعي والروح التي خلفتها الدكتاتورية. 

ولكن للأسف ما يجري هو العكس!

—————-

نشر في جريدة طريق الشعب العدد 13 الاحد 1 ايلول 2024

علق هنا