بغداد- العراق اليوم: افتتاحية جريدة الحقيقة
نظراً لأهمية ما نشره الرفيق فاروق فياض عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي في جريدة طريق الشعب الغراء يوم أمس الأحد، ارتأت جريدة الحقيقة إعادة نشر المقال في افتتاحيتها لهذا اليوم :
بقلم فاروق فياض / عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي العراقي إن عملية استحضار الحدث التاريخي بأشكالها المتناقضة، تخص الحاضر والمستقبل، كون من يتناول الحدث بغض النظر إن كانوا أفراداً كباحثين او أكاديميين او مثقفين او سياسيين او مؤسساتياً بأشكالها المتنوعة، ليسوا معلقين في الهواء، انما هم جزء من بنىً اجتماعية وطبقية ترتبط بشكل مباشر او غير مباشر بما تفرزه توازنات القوى السياسية في لحظة تاريخية محددة. وبذلك يصبح الحديث عن الحياد شكلاً من أشكال الوهم أو التضليل أو كما يقال: (وصفة للنوم المريح) والجواهري محق حين قال: (وأذلّ خلق الله في بلد طغت .... فيه الرزايا من يظل محايدا). لست هنا بصدد ذكر مقارنات وإحصاءات بين ما كان في العهد الملكي وما تم انجازه في عهد الجمهورية الاول، لكنني أود أن أشير إلى عدة ملاحظات منها: أولا: - تحميل ثورة 14 تموز بما حصل بعد الإجهاز عليها بحمامات الدم والتي ندفع ثمنها لحد الآن من قوى الردة التي تضررت مصالحها نتيجة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إضافة الى تضرر القوى الإقليمية الرجعية والرأسمالية المتمثلة بالدور البريطاني والأمريكي في دعمهم للانقلاب الفاشي في 8 شباط 1963وإدراكها خطر التحرر في منطقة بالغة الأهمية مثل العراق وتداعياته على المنطقة، وهذا الاستنتاج يقود في نهاية المطاف إلى تبرئة هذه القوى مجتمعة عما جرى سابقا وعما يجري الآن، لذلك من غير المستغرب أن تتوحد هذه الاتجاهات المختلفة (الاسلامسياسية والبعثية والقومية) ولأسباب عدة بمحاولة النيل من الثورة، وبشكل أدق من القوى الوطنية واليسارية التي كانت عمودها الفقري، كون هذه الاتجاهات على اختلافها لم يكن لها الدور المحوري بالثورة بل على العكس كان لها الدور بالإجهاز عليها، بسبب ما تعرضت له من خسائر على المستوى الطبقي والاجتماعي. ويمكن الإشارة إلى قانون الاصلاح الزراعي رقم (30) لسنة 1958. وقانون الاحوال الشخصية رقم (188) لسنة 1959. أو ما تعرضت له شركات النفط الاجنبية الاحتكارية نتيجة قانون رقم (80) لسنة 1961 قانون تعيين مناطق الاستثمار لشركات النفط والذي حرر أكثر من 99 بالمائة من الأراضي العراقية من هيمنة شركات النفط الاجنبية. ثانيا: - التباكي على ديمقراطية ومدنية العهد الملكي ومجيء العسكر إلى الحكم بعد الثورة، علما أن نوري سعيد لم يكن فنانا تشكيليا او مؤلفا مسرحيا او موسيقيا انما كان عسكريا في الجيش العثماني واستطاع بشكل «ديمقراطي» جدا أن يصبح رئيسا للوزراء لمدة 14 مرة من 1930 لغاية 1958، اي بمعدل كل سنتين، شاهداً على استقرار النظام وديمقراطيته. ويمكن القول إن الاستثناء وليس القاعدة، من ترأس رئاسة الوزراء في فترة العهد الملكي من لم يكن عسكرياً، أما ما يخص الجانب المدني للعهد الملكي فيمكن الإشارة إلى أهم قانون مدني شرع من عام 1918 إبان سلطة الاحتلال البريطاني واستمر لغاية ثورة تموز 1958 وهو (قانون دعاوى العشائر) والذي يحق فيه للإقطاع امتلاك السراكيل والسجون لتعذيب الفلاحين وقتلهم دون الخضوع للقانون، علما أن أغلبية الشعب العراقي في ذلك الوقت من الفلاحين. وأشير لما نشرته جريدة الجمهورية في 28 تموز 1958 (لقد نصت المادة التاسعة من الدستور المؤقت « المواطنون سواسية امام القانون في الحقوق والواجبات ولا يجوز التمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة « لذلك قرر مجلس الوزراء الغاء قانون دعاوى العشائر. ويمكن القول، إن عهد الجمهورية الأول هي الفترة الوحيدة في تاريخ العراق المعاصر، لم تشهد تمييزا طائفيا، أو يمكن القول إنها الأنقى من جميع الحقب بما يخص الجانب الطائفي. أما ما يخص الأقليات وكيف تعاملت الحكومات «المدنية» في العهد الملكي، فعلى سبيل المثال ما جرى للآشوريين «تختلف المصادر في العدد الكلي للقتلى من الآشوريين، حيث ذكر التقرير الرسمي البريطاني أن العدد الإجمالي للقتلى خلال آب 1933 بلغ حوالي 600، بينما وضعت المصادر الآشورية الرقم بأكثر من 3000 « أما يهود العراق فقد تم إسقاط الجنسية العراقية عنهم في بداية خمسينيات القرن العشرين وتسفيرهم إلى اسرائيل «كان اليهود يشكلون 2.6 بالمائة من مجموع سكان العراق في عام 1947 وانخفضت نسبتهم إلى حوالي 0.1 بالمائة من سكان العراق عام 1951م « بتواطؤ النظام المالكي مع المخطط البريطاني الصهيوني. أما ما يخص المنظمات الديمقراطية وتشكلها فكان التأسيس أو انطلاق أعمالها بحرية أكبر عما كان في العهد الملكي، فتشكلت في العهد الجمهوري أول نقابة للصحفيين والاتحاد العام للكتاب والادباء في العراق والجمعيات الفلاحية. بينما تحررت منظمات ديمقراطية من المنع والملاحقة التي كانت سائدة في العهد الملكي مثل اتحاد الطلبة العام لجمهورية العراق ورابطة المرأة واتحاد الشبيبة الديمقراطي. ألم تكن هذه المنظمات هي نواة التحول المدني في العراق، والتي تمت محاربتها فيما بعد خلال الانظمة المتعاقبة بعد انقلاب 8 شباط الأسود؟. ثالثا: - البكاء المنافق لمصرع العائلة المالكة والذي اتهم به الضباط الاحرار بينما الذي قام بالفعل هو النقيب عبد الستار العبوسي، ولم يكن من الضباط الاحرار. وهل توجد ثورة في تاريخ العالم لم يستخدم فيها العنف؟ ولست هنا لأبرر فعل العنف لكنه أمر يتم فرضه بفعل عوامل متداخلة موضوعية وذاتية لا يمكن التعامل معها إرادويا، والذي يجب تجنبه قدر الإمكان وبكافة الأشكال والتقليل منه قدر المستطاع. ويمكن هنا إثارة سؤال: هل هناك ضحايا يسير في عروقهم الدم الأزرق، يمكن التعاطف معهم، وضحايا آخرون لا يمكن مشاهدتهم حتى بالمجهر؟ أم أن ضحايا الفقراء هم من الفائض البشري الذي لا يلفت الانتباه!. وما اقترفه النظام الملكي ليس بقليل ومنها أحداث سميل ومذبحة الآشوريين سنة 1933، وتعليق العقداء الأربعة في الشوارع بعد حركة مايس 1941، ووثبة كانون 1948 التي راح ضحيتها العشرات من الطلبة والمواطنين، وإضراب كاورباغي في كركوك واستشهاد 16 عاملا نتيجة إضراب عمال النفط ضد الشركات الأجنبية، ثم إعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي فهد وحازم وصارم وتعليق جثثهم في الساحات العامة في 14 شباط 1949، بالإضافة إلى ضحايا هبات جماهيرية عدة في العديد من مدن العراق منها انتفاضة الحي1956 وعشائر ال زيرج 1952. هذا من جهة ومن جهة أخرى امتلاء السجون بخيرة المناضلين والمثقفين في سجن نكرة السلمان والكوت وبعقوبة. بينما عندما يمر يوم 8 شباط الأسود بتاريخ العراق المعاصر الذي تحولت فيه حتى الملاعب والمكتبات العامة الى معتقلات للتعذيب، لم ينج منه الأكاديميون المرموقون أمثال عالم الفيزياء ورئيس جامعة بغداد عبد الجبار عبد الله وعالم الاثار طه باقر والكثير غيرهم من فنانين وكتاب وصحفيين، عدا ما كان يحصل في المسلخ البشري في قصر النهاية. لكن أمام هذه المجازر التي طالت آلافاً من أبناء شعبنا تخرس الألسن ولا تكاد تُذكر إعلامياً أو عبر صفحات التواصل الاجتماعي كما يتم تناول أحداث 14 تموز. وكذلك تجاهل انقلاب 17 تموز 1968 ووصول البعث الى السلطة للمرة الثانية. السؤال الذي يمكن طرحه: هل هذا التجاهل عفوي أم أن هناك أجندات تحاول تجاهل او نسيان هذه الحقبة وتزييف التاريخ؟ ولمصلحة من؟. رابعا: - ما لا يمكن نكرانه هو الجانب الوطني لثورة تموز حيث أنهت القواعد العسكرية البريطانية في الشعيبة والحبانية واخرجت العراق من الاحلاف الاستعمارية، ونزاهة ووطنية الزعيم عبد الكريم قاسم وكذلك وزراء تلك الحقبة، إضافة إلى إنجازاتها التي لم تستطع تحقيقها لا الحكومات التي تعاقبت في العهد الملكي ولا الحكومات التي تعاقبت بعدها مقارنة بعمرها القصير خلال أربع سنوات ونصف، والذي رافقته الكثير من المؤامرات منذ اليوم الاول لنجاح الثورة. ولعل الجانب الوطني، والنزاهة والانحياز إلى الفقراء ومستوى الإنجاز، التي رافقت حقبة الجمهورية الأولى هي من أهم الأسباب التي دفعت الى الغاء عطلة 14 تموز من قانون العطلات الرسمية رقم (12) لسنة 2024، وذلك لقطع الطريق أمام الأجيال الجديدة، وتشويه وعيها واستبدال قيم الوطنية والنزاهة والكفاءة، بالطائفية والتبعية والفساد. ويذكرني أعداء تموز الجدد بمقدمة كتاب كارل ماركس « الثامن عشر من برومير لويس بونابرت « يقول هيغل في مكان ما ان جميع الأحداث والشخصيات العظيمة في تاريخ العالم تظهر، إذا جاز القول، مرتين. وقد نسي ان يضيف: المرة الأولى كمأساة والمرة الثانية كمسخرة.
*
اضافة التعليق