بغداد- العراق اليوم: بقلم : اللواء الركن جليل خلف شويل بادئ ذي بدء ، أتقدم بخالص التهاني والتبريكات بمناسبة عيد الجيش الأغر الى الشعب العراقي وأفراد القوات المسلحة … كل الشكر والعرفان والامتنان لحماة الأرض والإنسان والرحمة والخلود لشهداءنا الأبرار. المقال : في صباح يوم 18 تشرين الثاني 1995 كنت انذاك اشغل منصب ضابط ركن اول في احدى الفرق في القاطع الشمالي.. رن الهاتف في مكتبي بشكل مستمر.. عند رفعي سماعة الهاتف اخبرني عامل بدالة الفرقة ان ضابط امن الفيلق الخامس يطلبني بشكل عاجل. كان صوته مرتبكا بشكلظاهر لم يستطع ان يخفيه و اخبرني ان شخصية عسكرية مهمة برتبة عالية متجهة الى محافظة اربيل والتي كانت تحت سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني ضمن المنطقة الامنة ويجب ابلاغ كافة سيطرات الفرقة بايقافها فوراً ولم يخبرني من هذه الشخصية العسكرية المهمة..! واخذت اتساءل مع نفسي من هذه الشخصية؟ وبدوري اخبرت السيطرات التابعة لفرقتنا ونفوا ان اية شخصية عبرت سيطرتنا الى الجهة الاخرى.. وبعد اتصالي ببقية الفرق الموجودة في قاطع الفيلق الخامس علمت ان العميد الركن نجيب الصالحي رئيس اركان الفرقة الاولى قد اتجه الى محافظة اربيل بسيارته المدنية «اولدزموبيل» زرقاء اللون مع لاندكروز عسكرية وبصحبته بعض العسكريين هذا وقد وضعت كافة سيطراتالفيلق باعلى درجات الانذار. كان الكثير من الضباط يتمنون هذا الامر، ولكن ذلك يحتاج الى الجرأة والجسارة.. لان هناك عواقب وخيمة تنتظر عائلته واقرباءه من الدرجة الاولى.. لقد استطاع الاخ نجيب ان يتخلص من قبضة النظام في اللحظة الحرجة، قبل ان يتمكنوا من القبض عليه. هذه الحادثة خلقت ردة فعل كبيرة من قبل الجهات العليا وتشددت المراقبة على الضباط وبخاصة ممن عليهم مؤشرات معينة.. ولكنها في المقابل كسرت حاجز الخوف واسقطته في نفوس الاخرين.. وكانت بارقة امل للذين يحلمون بالتخلص من النظام والعبور الى الجهة الاخرىالامينة في كردستان العراق.. وكانت الحادثة حديث الساعة لدى ضباط ومراتب وحدات الفيلق بالرغم من ان الاوامر المشددة بعدم الحديث عن ذلك ومراقبة الذين يتكلمون او يتهامسون مع بعضهم؟! اما على المستوى المدني في مدينة الموصل فقد كان للحادث وبهذا الاسلوب من الجرأة ايضاً رد فعل كبير اضعف من هيبة النظام وادعائه انه لايستطيع احد ان يفلت من قبضة الاجهزة الامنية بالنسبة للعسكريين او المدنيين بل قلل هذا الامر من اهمية هذه الاجهزة.. وان بالامكان التخلص منها. عادت بي الذكريات الى ايام الكلية العسكرية عام 1972، عندما كنا طلاباً فيها من دورة واحدة كانت اهم مميزات نجيب الصالحي الهدوء والبساطة والتواضع. وكان يتمتع بمحبة خاصة لدى اغلب طلاب الدورة، لبناء علاقات طيبة مع الجميع، وكان اجتماعي الطبع وينتميالى احدى العشائر المعروفة في العراق وبجذورها الممتدة في هذه الاراضي الطيبة، وهي عشيرة «البو صالح» المنتشرة في اغلب انحاء العراق. ورغم تخرجنا ضباطا في الجيش العراقي عام 1974 وتفرقنا في تشكيلات الجيش، غير ان اخباره الطيبة كانت تصل الي وبمرور السنين تدرج في المناصب العسكرية من خلال مواظبته وكفاءاته، وكنت في بعض المرات التقي به وكان يحدثني عن عدم رضاه عن الكثير من الامورالتي تحدث في البلد، وعن الحرب العراقية الايرانية التي تكبد فيها البلدان المسلمان خسائر كبيرة في الارواح والمعدات والاقتصاد وطائفية نظام صدام. وبعد ايقاف هذه الحرب المدمرة عام 1988 كان من المفترض ان لايفكر هذا النظام بدخول اية حرب اخرى. دخل النظام الاراضي الكويتية في 2 اب 1990 وهو لايعلم انه حمل مصيره النهائي وزوال حكمه فيما كان الشعب العراقي وابناء الجيش رافضين لهذه الحرب بكافة تفاصيلها وفصولها لنتائج معروفة مسبقاً ولاول مرة كان التذمر والرفض والانتقاد يجري علناً وبعدة اشكالمنه هروب الضباط والجنود الى الاراضي السعودية والايرانية او باتجاه عوائلهم في العراق. وفي بداية القصف الجوي الكثيف لقوات التحالف ضد القوات العراقية في الكويت بدأ التذمر وهبطت المعنويات فتسرب المقاتلون من الضباط والمراتب من وحداتهم الى عوائلهم داخل العراق، لكن مع الاسف حاول القادة الكبار في القوات المسلحة العراقية تصوير الامرلرئيس النظام السابق بان هذا التسرب لاقيمة له ويعادل خسائر معركة واحدة في الحرب العراقية الايرانية، علماً ان معدل هذا التسرب بلغ في الكثير من الوحدات(80%) اذا لم يكن اكثر.! * الشرارة الاولى للانتفاضة المباركة بدأت الشرارة الاولى للانتفاضة من البصرة اطلقها احد المقاتلين الغاضبين من النظام ورئيسه والعائد من جبهات القتال وقد اختلفت الروايات حول الحادث منها: انه اطلق قذيفة دبابة باتجاه صورة صدام في مدينة الزبير حولها الى ركام مما لاقى استحساناً لدى الجنودالعائدين من القتال.. واحدى الروايات تقول انه اطلق الرصاص من بندقيته باتجاه احدى الصور لرئيس النظام في ساحة سعد في البصرة. وسواء كانت بندقية ام دبابة فقد مثلت التحدي والرفض والسخط على رئيس النظام المخلوع ويبقى هذا حدثا كبيرا في وقته بل شجاعة وبطولة نادرة من قبل هذا المقاتل الثائر وهكذا انتشرت اخبار هذه الحادثة بشكل سريع جداً في كافة انحاء محافظة البصرة وبقية المحافظاتايذاناً ببدء الانتفاضة المباركة للتخلص من الظلم والطغيان. لقد مثل هذا الجندي البطل شعور ابناء الشعب العراقي بكافة طوائفه واعرافه في ضرب وتدمير «الصنم» ليعلن عن رفضه عما حصل ويحصل للشعب العراقي والجيش العراقي الذي شوهه رئيس النظام بحروبه المستمرة التي حولت العراق من اغنى بلد الى افقر بلد كما دمر البنيةالتحتية والاجتماعية للعراق وجعله بلد ملايين الشهداء والجرحى والمعوقين. في تلك الاحداث المصيرية كنت اشغل منصب امر لواء 16 وكان الاخ ابو عامر نجيب الصالحي يشغل منصب رئيس اركان الفرقة المدرعة السادسة وكان امر (لواء مدرع/ 30) الاخ عبد الكريم وكان امر(لواء المشاة الالي/ 25) العقيد محمد علي اما قائد الفرقة فكان اللواءالركن رعد العاني. وتربطني بالاخ «ابي عامر» روابط متينة فنحن من دورة عسكرية واحدة بالاضافة الى روابط الاخوة والصداقة والمصير المشترك. ومن خلال علاقتي معه كان يتميز بمواقفه الوطنية ورفضه كل مواقف النظام الطائفية والعنصرية ويبدي تعاطفاً مع اهل المحافظات الجنوبيةبسبب ما تعرضوا له من اضطهاد وقمع وسجون وتعذيب واعدامات وتهميش لم ينقطع. ولكوني من سكنة البصرة ومن اهل الجنوب فقد كان الاخ ابو عامر يثق بي كثيراً ويسرني بامور في غاية الخطورة. واتذكر اجتماعه بنا في 2/3/1991اليوم الاول للانتفاضة عندما اوصانا بعدم تنفيذ الاوامر التي تؤدي الى ايقاع الاذى بابناء المنطقة في ناحية «الدير» محافظة البصرة، كما كان لايخفي تعاطفه مع رجال الانتفاضة واخذ يوصينا بعدم المس بهم او اذيتهم والتخلصمن المواقف المحرجة باي ثمن كان. والباقي عليه امام المراجع العليا، وكان ذلك يتم عبر التفاهم والثقة التامة بين آمري التشكيلات ورئيس الاركان بشكل منفرد. وهكذا سارت الامور حتى النهاية. حادثة اخرى اتذكرها. بعد استقرار وحدات وتشكيلات الفرقة في ناحية «الدير» قرب مقر الفيلق الثالث، كانت توجيهات المراجع العليا قصف القرى او المنازل التي تخرج منها فوهات نارية ضد المقرات او الوحدات العسكرية وكانت قرب مقر الفيلق قرية صغيرة بائسة. ذكران بعض رجال الانتفاضة فيها طلب من تشكيلات الفرقة معالجة ذلك، لكن الاخ «ابا عامر» اجتمع بنا وطلب منا عدم تنفيذ الامر بالشكل المطلوب خوفاً على اهالي القرية وهكذا نفذنا مااتفقنا عليه. عانى اهالي البصرة الصامدة الكثير من المآسي والدمار والخراب في ظل هذه الحروب المستمرة وقد توزعت وحدات تشكيلية على معمل ورق البصرة والمناطق المحيطة به وقرب مذخر»الدير» وقد نهبت محتويات هذا المذخر من قبل الاهالي بسبب الجوع الذي تعرضوا له، واستطعتان احافظ على عدد من اكياس الطحين والرز وبقية المواد الغذائية كارزاق للواء. وحدث ان راجعني احد المواطنين هو مع اطفاله وكان يشكو من الجوع والعوز وان عائلته واهالي المنطقة يتغذون على «طلع النخيل» ولم يذوقوا طعم الخبز منذ فترة وعندها اخبرت ابا عامر بالامر واتفقناان نقتسم الطحين والمواد الغذائية مع اهالي القرية والجنود وهكذا تم هذا الامر وظهر تلاحم الجنود مع اهالي القرية في الظروف الصعبة. من ضمن الحوادث كانت هناك منطقة قريبة من ناحية الدير وفيها معمل لكبس وتعليب التمور. حيث قام عدد من اصحاب سيارات الحمل الكبيرة بكسر ابواب المعمل والاستيلاء على الاف من اكياس التمور زنة (10) كغم وتم تحميلها بسياراتهم واستطاع مقر اللواء ان يستعيدهذه الاكياس من الاسواق وعددها اكثر من عشرة الاف كيس وتم توزيعها الى اهالي القرى القريبة بعد الاتفاق مع الاخ نجيب الصالحي، والباقي تم توزيعه لبعض الوحدات العسكرية. وفي احدى المرات وكنت موجودا في مقر الفرقة وكنا نتكلم عماحصل بالوحدات العسكرية وبحضور رئيس اركان الفرقة. وحدث ان ذكرت مواقف بعض المسؤولين الحزبيين وكنت اتكلم بصوت عال وعندها دخل المسؤول الحزبي للفرقة وهاجمني بشدة متهماً لي بتشويه سمعة المسؤولين وعندها عاتبني الاخ العميد الركن نجيب الصالحي لعدم ردي على تهجمه غير اني ذكرت انني من اهالي الجنوب وايتصرف قد يؤدي لاتهامي بمختلف الاتهامات اذا اراد ذلك. هنا لابد من ذكر حادثة كادت تؤذينا من قبل النظام بعد تحرك قطعات الحرس الجمهوري باتجاه الضفة المقابلة لشط العرب مقابل قطعاتنا وبعد قصف المنطقة عبر الكثير من اهالي المنطقة باتجاه وحدات لوائي وكانت الاوامر تنص على حجزهم والتحقيق معهم للاشتباه بهموخوفاً عليهم من الاذى اتفقت مع رئيس اركان الفرقة العميد الركن نجيب الصالحي، فاطلقت سراحهم جميعاً، وقد اثار هذا الاجراء شكوك امن الفيلق بسبب اشراك احد من عناصرهم بذلك، وعندها اتصلت برئيس اركان الفرقة وطلبنا منه ان يتلافى الموقف وبدوره استطاع ان يقنع الفيلقبان الامر جرى بشكل صحيح وسليم. لقد كانت مواقف العميد الركن نجيب الصالحي تثير قلقا لدى الاجهزة الامنية والحزبية، كان ذو شخصية فعالة في الوسط الذي يعمل به اضافة الى كفاءته العسكرية وبسبب هذا كسب الكثير من الضباط والجنود واحبوه كثيراً .وكانت عيون الامن والسلطة تتربص به وتترصدحركاته اولا باول، وقد تعامل بذكاء وحكمة كبيرين مع هذه الامور. لقد رسموا له «خطاً احمرا» من ناحية توليه المناصب العسكرية لايمكن تجاوزها فكان اخر منصب له رئيس اركان الفرقة وهذا المنصب ايضاً خطأ وقع فيه النظام ولكن ظروف الحرب هي التي اجبرته على ذلك. لان اعطاءه اي منصب قيادي معناه تشكيل خطر على النظام. وبعدانتهاء الحرب وتحرير الكويت اخذوا ينقلونه من منصب لاخر وجميع هذه المناصب غير مؤثرة او قيادية ولاتتناسب مع كفاءته العسكرية او خدمته العسكرية، والله العالم ماذا كان النظام يخبئ له لو لم يكن قد إستبق الأحداث بإنتقاله الى المعارضة العلنية في جغرافية لم تكن تحتسيطرة السلطة.
*
اضافة التعليق