بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة
أعجبتني في أدبيات الثورة الحسينية وأطرها الثقافية والإنسانية، عبارة: ( انتصار الدم على السيف)، حتى غدت هذه العبارة عنواناً بارزاً من عناوين ثورة الإمام الحسين.. ومما زاد في اعجابي بهذه العبارة، فاعلية تحقيقها التاريخي والإنساني والقيمي، فضلاً عن انتشار مضمونها في ميادين الكفاح والنضال الثوري والأممي المختلف. وعدم وقوف هذه العبارة عند محطة عاشوراء أو حدود الثورة الكربلائية.. إنما غدت قانوناً للثورات الساعية للحرية والعدالة الاجتماعية في العالم.. فمن كربلاء انطلق قانون (انتصار الدم على السيف) إلى عواصم الثورة في هافانا وهانوي والجزائر وإرتيريا وعدن وطهران وجنوب لبنان ونيكاراغوا، وعواصم أخرى من عواصم ثورة الإنسان ضد أنظمة الظلم والاستعباد.. لقد رأينا كيف يتحقق معنى (انتصار الدم على السيف) ويتجلى مضمونه في مختلف الساحات .. وأمامكم اليوم غزة، فهي أصدق تجربة وأنجح (تطبيق) لقانون (انتصار الدم على السيف) .. ولكن قبل كل شيء يجب أن نعرف كيف انتصر (الدم) في واقعة كربلاء الحسين على (سيف) عمر بن سعد بينما النتائج تقول إن النصر (العسكري) كان لجيش عمر بن سعد، خاصة بعد استشهاد قائد الثورة الإمام الحسين مع آل بيته وصحبه الميامين.. وإن النصر السياسي كان من نصيب (الخليفة) يزيد بن معاوية، بدليل أن دولة الأمويين بقيت على سدة الحكم بعد معركة الطف ! إلاٌ أن سؤلاً منطقياً واجهنا ويواجهنا به التاريخ منذ اربعة عشر قرناً حتى اليوم، والسؤال : من الذي انتصر (أخلاقياً) في هذه المواجهة، ومن بقي على ( سدة ) التاريخ، أهو دم الحسين أم سيف بن سعد، ومن الذي ترك للأجيال الحرة كل هذا الارث والضوء والزهو الجميل: أقيم الحسين المشعة، ام كرسي يزيد الهزاز المهزوز والمكسور؟ لقد صار دم الحسين الحر قدوة وإلهاماً ودرساً باهراً. هل رأيتم دماً يتحول إلى مدرسة تتعلم فيها طلائع الشعوب دروس الحرية، والنضال، والكفاح من اجل العدالة والمساواة؟ نعم، هكذا كان دم الحسين وهكذا سيبقى بعد الف جيل وجيل.. بل هذا هو المعنى الحقيقي لانتصار الدم على السيف. حين قدم الجنود رأس الحسين أمام يزيد في قصره بالشام، (تحسس) الفتى الأحمق سيفه بغرور وهو يظن انه (خلص) انتصر على الثورة وحسمها، وهو لا يعلم أن هزيمته الأخلاقية والتاريخية قد بدأت من لحظة استشهاد الإمام ..! وإن (فوزهم) الموهوم ذاك، كان أعظم خسارة مُنيت بها الدولة الأموية !! وعلى هذا القياس، لدينا أمثلة عديدة يمكن طرحها هنا، فعندما انتصر صدام وقوات حرسه الجمهوري والخاص بطائراته وأسلحته الفتاكة على شبان انتفاضة شعبان - آذار 1991، العزل، لم يكن يدرك أن هزيمته قد بدأت من لحظة ذلك (الانتصار) الغبي، وإن كل ما لحق بصدام بعد ذلك كان تتمة منطقية لهزيمته الاخلاقية التي بدأت من ساعة قمع الانتفاضة وذبح أبنائها.. والشيء نفسه يمكن قوله عن (انتصار) الدكتاتور بينوشيه على شعب شيلي عام 1973 والذي تجلى بأبشع صور المجازر التي ارتكبها هذا الجنرال بحق شعبه، وكان قطع أصابع (فنان الشعب) التقدمي فيكتور جارا، بعضاً من بشاعتها.. ولكن النتيجة التي ظهرت جلية أمام العالم أرسلت المجرم بينوشيه إلى مزبلة التاريخ كما مضى قبله هتلر، وبعده صدام حسين وبقية القتلة والطغاة، بينما أصبح المكان الذي قتل فيه (فكتور جارا)، مزاراً يتوافد اليه الناس من مختلف بلدان العالم، وبات رمزاً وطنياً وإنسانياً عالمياً رغم أنف الفاشية. أما في غزة اليوم، فالجرح الفلسطيني لا يختلف قيد (شمعة) عن وهج القانون الأخلاقي المتحقق في عواصم الثورات النبيلة، وأقصد به قانون انتصار الدم على السيف الظالم .. فالجيش الصهيوني الذي يقصف شعب غزة كل ساعة بأنواع الصواريخ والقنابل، ويستخدم شتى أنواع الأسلحة التدميرية بحق شعب أعزل، بما في ذلك الأسلحة المحرمة دولياً، ولم يستثن أو يوفر في عدوانه مستشفى أو مدرسة او دار عبادة، او مجمعاً سكنياً مزدحماً بالأطفال، أو دار رعاية للعجزة والمسنين، حتى وصل عدد ضحايا العدوان الصهيوني في غزة وحدها حوالي مئة الف ضحية بين قتيل وجريح، ناهيك من سياسة التجويع التي فرضها العدو عبر حصار قاس لم يتعرض لقسوته شعب من قبل ... لقد تحولت غزة إلى مقبرة، وبدت كأنها مدينة تعرضت لزلزال شديد، أو ضربت تواً بالقنابل النووية.. ومع كل هذا القصف والقتل والحصار، فإن شعب غزة لم يزل صامداً بشرف، وواقفاً على قدميه بثبات، فهو لم يركع ولم يستسلم أو ينطفئ رغم كل الظلمة التي تحيط به من الجهات الأربع. وأنا هنا أتحدث عن شعب غزة، وعن مظلومية هذا الشعب الصابر فحسب، ولا أتحدث عن غير ذلك قطعاً، فلا حركة حماس تعنيني، ولا غيرها من المنظمات الأخرى يهمني، إنما يعنيني أطفال ونساء وشيوخ شعب غزة، ويهمني كبرياء وشموخ هذا الشعب (الجبل) الذي لم تهزه الريح أبداً ..
إن جرح غزة لا يختلف عن أي جرح حر وشريف آخر، فالدم الذي يسيل اليوم في شوارعها وبيوتها كان قد سال مثله الكثير في بقاع ومدن التاريخ، باعتبار أن الكفاح والنضال من أجل الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية واحد حتى وإن اختلفت ألوانه، وراياته، وآيدلوجياته.. ثمة حقيقة مفادها أن الشعوب الحرة لن تموت مهما تعرضت للنكبات والتدمير، والحصارات .. فهل مات الشعب الياباني رغم تعرضه إلى قنبلتين ذريتين، أم هو اليوم في صدارة الشعوب الحرة والحية والديمقراطية في العالم، وهل ركعت مدينة ستالينغراد الروسية وهي التي تعرضت لقصف رهيب دمر مبانيها، واحترق فيها كل شيء !؟، لكنها صمدت ومرغت أنوف الغزاة النازيين في التراب.. رغم انها واجهت هجمات وحشية بجيش ناري قوامه حوالي مليون جندي وضابط مدججين بـ 1640 طائرة مقاتلة، و1260 دبابة و17 الف مدفع، ومدافع هاون لا تعد ولا تحصى، إلا أن شعب ستالينغراد لم يصمد بوجه جيوش هتلر فحسب، إنما صار محطة انطلاق لتحطيم الجيوش النازية وتحويل اتجاه المعركة برمتها نحو برلين. هذا لأن الشعوب الحرة لن تموت، والنصر لن يتحقق من خلال حجم الجيوش أو نوع الأسلحة، ولا بأعداد الضحايا، فجيش عمر بن سعد مثلاً كان يضم 32 ألف مقاتل، بينما جيش الحسين ضم 72 شخصاً فقط، فيهم الذي لم يحمل سيفاً من قبل، وبين شهدائهم طفل رضيع (عبد الله بن الحسين)، وبين مقاتليه (امرأة)، كانت قد هرعت خلف ولدها الشهيد وهب النصراني، وفي جيش الحسين عدد من الكبار الطاعنين في السن مثل (أنس بن كاهل الأسدي) صاحب التسعين عاماً، وأحد الذين شهدوا بدراً وحنيناً.. حتى أن النبي محمد قال : (لن يهزم جيش فيه يقاتل أنس بن كاهل الأسدي).. وعدا هذه المزايا المبهرة، فإن ثمة هدفاً سامياً، وقضية نبيلة قاتل من أجلها الإمام الحسين واصحابه في كربلاء، وكذلك تجد الثوار والأحرار والمناضلين في كل العالم يقاتلون، عبر مختلف مراحل التاريخ من اجل أهداف عظيمة، تستحق التضحية والفداء بلا حد ولا كلل ولا ملل.. وما شعب غزة إلا أحد هذه الشعوب الحرة.. أما المجرمون، فلهم هدف واحد عنوانه: القتل والدم والإبادة، ونتنياهو برأيي أسوأ نموذج ناطق باسم هواة القتل و الدم.. ونهايته حتماً لن تكون أفضل من نهاية صدام وبينوشيه وهتلر وبقية القتلة ..
*
اضافة التعليق