بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة
مرت قبل أيام، ذكرى موجعة لقلوب العراقيين، والاحرار في العالم.. ذكرى تحرك قطار (أيزنهاور) بقيادة وكالة الاستخبارات الاميركية، قبل واحد وستين عاماً، حاملاً في عرباته شلة من أسوأ القتلة والجواسيس، وشذاذ الآفاق، ليقتحموا وزارة الدفاع العراقية، ويغتالوا بغفلة تاريخية، ثورة الرابع عشر من تموز الجميلة، وزعيمها الخالد عبد الكريم قاسم ورفاقه. ومن باب الشكر والوفاء لثورة تموز، قررت أن أكتب مقالي اليوم عن هذه المناسبة حتى لو جاء متاخراً بعض الشيء .. وأخصص قسماً منه للحديث عن دور الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم، وتأثيره الكبير في مستقبلي الشخصي، بل ومستقبل جيلي والأجيال اللاحقة برمتها، لاسيما نحن أبناء الطبقة الكادحة، متمنياً على كل عراقي أنير مستقبله بمصابيح ثورة تموز، أن يفي هذه الثورة حقها، ويشهد على ما قدمته له من مكاسب ومنافع كبيرة، خاصة وأن هذه الثورة وزعيمها يتعرضان اليوم وكل يوم لحملات افتراء وتسقيط ظالمة. لقد كان لعبد الكريم قاسم فضل كبير عليّ، وعلى عائلتي، وأبناء طبقتي الفقيرة فعلاً وليس قولاً .. فحين هاجرنا من ناحية كميت في محافظة ميسان عام 1960، وسكنا في منطقة الصرائف خلف السدة، وتحديداً في (كمب الصليخ - راغبة خاتون)، ببغداد، كان عمري وقتها أقل من تسعة أعوام، وكانت صريفتنا التي لا تختلف عن صرائف المنطقة، عبارة عن خربة لا تصلح سكناً للحيوانات حتى وليس للبشر فحسب، فلا سقوف صالحة فيها، ولا نوافذ تهوية، ولا ارضية يمكن العيش عليها، فضلاً عن أن صيفها حار قاتل، وشتاءها بارد مهلك.. وعندما تمطر السماء، فحدث عن ذلك بلا حرج ! وطبعاً فقد كنا نعيش بلا ماء، ولا كهرباء، ولا شوارع معبدة، ولا توجد مدارس او مراكز صحية، رغم انتشار أمراض الملاريا والتيفوئيد والسل (التدرن الرئوي) وغيرها ! أما مدرستنا - مدرسة الحارث الابتدائية- فهي في الحقيقة ليست مدرستنا، إنما مدرسة أبناء كبار الضباط، ورجال الدولة، وأبناء الأثرياء، و القصور الفارهة في منطقة راغبة خاتون / الأعظمية، وما كنا نحن أبناء الصرائف سوى (نزلاء) غير مرغوب فيهم. ولأننا من سكنة الصرائف، فقد ذقنا مرارة التمييز ، وألم السخرية، وذل الاحتقار، ليس على يد إدارة المدرسة المتغطرسة فحسب، بل وعلى يد الطلبة أيضاً، لاسيما وأن منطقة راغبة خاتون كانت مقفلة للنشاط القومي والبعثي الشوفيني.. وبالمقابل، فقد كنت مع شقيقي (خيون)، وتسعين طالباً من أبناء الصرائف، ننتمي إلى عالم مختلف عنهم .. عالم مسحوق، ومعدم، وجائع أيضاً، إذ يمكن لأي شخص ان يعرف هويتنا الطبقية بمجرد ان يلقي نظرة على وجوهنا الصفر الشاحبة، وملابسنا الرثة المهلهلة، أو يلقي نظرة على أحذيتنا المطاطية (اللاستيك)، التي كانت تحرق أقدامنا في الصيف، وتجمّدها في الشتاء. ولعل أكثر ما كان يحرجنا ويجرح مشاعرنا، وقوفنا في طابور طويل امام باب المدرسة صباح كل يوم ممطر، ونحن نقوم بغسل أحذيتنا الملطخة بأطيان السدة، بإشراف (فراش) المدرسة الذي كان يحمل بيده (صوندة) كبيرة يصب منها الماء البارد على أحذيتنا وأقدامنا.. ! وما أن ننتهي من غسل الأحذية، حتى يقوم (السيد) الفراش بفحصها، والويل لمن يغش في (واجب) تنظيف وغسل حذائه من الطين ! وطبعاً فإن هذا الفراش الظالم لا يسمح بدخول أي منا إلى الصف، إلا بعد أن يتفحص بنفسه حذاء كل واحد، وكأنه يشرف على زراعة قلب اصطناعي! ولأني وشقيقي جئنا من (العمارة)، وحيث كانت لهجتنا مميزة، ولفظنا للحروف مختلفاً، إذ كنا نلفظ حرف الجيم ( ياءً )، فنقول ( دياية) بدلاً من دجاجة، و(يدتي) بدلاً من جدتي، كما كنا نلفظ كلمة (أربعين) بشكل مختلف عما يلفظه أبناء بغداد.. وننطق الـ (چا) بمناسبة وغير مناسبة.. ولك عزيزي أن تتخيل حجم الاستهزاء الذي كنا نتعرض له في الصف، حين يقوم أحدنا بشرح الدرس، أو الإجابة على سؤال المعلم، فقد كان الضحك يصل إلى أذان طلبة الصفوف المجاورة ..لذلك كنا نكره المدرسة والدراسة كرهاً شديداً، حتى كنا نبكي في خلواتنا كلما تعرضنا لهذه المهزلة .. وما اكثرها ! ويجب أن اعترف هنا بأن قدومنا من بيئة ريفية تكاد تكون منقطعة عن العالم وما فيه، وانتقالنا إلى بيئة الصرائف التي هي أشد تخلفاً وبؤساً، فضلاً عن ضعف علاقاتنا، وقلة احتكاكنا بالآخرين وانعدام التواصل مع سبل ووسائل الحضارة والثقافة والتطور جعلنا متخلفين عن الركب فكنت (كالأطرش بالزفة)، لا أفهم، ولا أعي، لذلك كنت أقضي يومي صامتاً..! كل هذا وأنا صبي لم يصل التاسعة من عمره.. وعلى هذه الحالة بقيت حتى عام 1963، حين انتقلنا لمدينة الثورة وأنا في الثانية عشرة من عمري، حيث سيتغير وضعي في مدينة الثورة تماماً، بل وسينقلب رأساً على عقب، فيصبح ذاك الصبي (الأطرش بالزفة) فتىً نبهاً، واعياً، بل و (مفتح باللبن) أيضاً، كما يغدو ذلك الولد الصامت الأخرس، متحدثاً، لبقاً، وذا لسان طويل وباشط ! بعدها بسنوات، صار أبناء (الشروگية) بمدينة الثورة، نجوماً في الشعر والقصة والرواية والمسرح والغناء والتشكيل، وصاروا فرسان المنتخبات وكباتنة الاندية الرياضية العراقية، ويعود الفضل في كل ذلك إلى الزعيم الخالد عبد الكريم الذي أزال الصرائف بكل أوجاعها وكوارثها وتخلفها، ومنح أصحابها قطع أراض مجانية في مدينة الثورة، بعد أن زرع الامل والثقة في نفوسهم، موفراً لهم الماء والكهرباء والمدارس والشوارع والطرق المعبدة، والمستشفيات، والملاعب والحدائق، وكل وسائل الحياة الكريمة دون أي مقابل .. فتفتحت مواهبنا وقدراتنا الفذة، ودسنا بأقدامنا على تلك العقد والأحاسيس المرة التي رافقتنا في صرائف الذل والقهر والتمييز .. لقد كنت وما زلت حتى اللحظة أتذكر وضعي في الصرائف، حين كنت صبياً صامتاً، معطلاً حد البلادة. وسأضرب مثالاً بسيطاً من حياتي (خلف السدة)، ولا أجد في ذلك حرجاً قط !!. في عام 1963 وقبل أن ننتقل إلى مدينة الثورة باسبوع تقريباً، زرت أخي وصديقي محمد كاظم الرديني، الذي كان بعمري، وكان بيتهم (الفخم) قريباً جداً من منطقة الصرائف، فوجدته حزيناً باكياً، ولما سألته عن السبب، قال : لقد مات ناظم الغزالي ! فعانقت صديقي مواسياً، وقلت له ببراءة:، المرحوم (شيعود لك) خويه ؟! فصاح منفعلاً : بابا شيعود لي شنو، هذا مطرب العراق.. ناظم الغزالي، شبيك ما تعرفه؟! قلت له: لا والله وين اعرفه.. شو لا عدنا راديو، ولا تلفزيون، چا بعد وين أسمعه ؟! وبعد خمسة واربعين عاماً من هذه الحادثة، زرت أحد المديرين العامين بوزارة الشباب لمناقشة حصة جريدتنا بإعلانات الوزارة، وحين دخلت عليه فوجئت بأنه صديقي محمد الرديني . في البدء لم يعرفني، ولما صافحته، دقق بوجهي، ثم صاح فرحاً: فالح حسون؟! وراح يقبلني ويبكي!! قاطعته بقولي مازحاً: ليش تبچي محمد، شو ناظم الغزالي ومات قبل نص قرن، عليمن تبچي ؟! فانفجر ضاحكاً وهو يقول: ها تتذكرها مو.. والله إنت أصيل !! ثم رحنا نستذكر المواقف ونضحك بقوة .. وقبل أن أغادره، قال: هل تعرف يافالح كم أنا فخور بك، وأنت تحقق طموحك في الشعر والصحافة، ولما كان اسمك أو صورتك تظهر على شاشة التلفاز، كنت اقول لعائلي متباهياً: هذا صديقي . . بعد فترة قصيرة غادر محمد الوزارة متقاعداً، وكان-أطال الله في عمره- مثالاً طيباً في النزاهة وعفة الضمير بالوزارة .. ودارت السنين والأيام، فتغيرت أحوالنا، وأشكالنا، وتبدلت ألسنتنا الريفية، وتبغددت، وصرنا نلفظ الدجاجة كما يلفظها البغداديون، وربما نسينا الكثير من الأحداث والمواقف في اغترابنا، لكننا لم ننس قط فضل الزعيم قاسم علينا، ولا نطق الـ (چا ) المملوحة.. إذ كيف ننساها وهي دلالة لهجتنا، وهويتنا الجنوبية؟
*
اضافة التعليق