“ وين الملايين .. الشعب العربي وين .. “ أغنية صنعها طاغية ورددها الثوار ..!

بغداد- العراق اليوم:

فالح حسون الدراجي

افتتاحية جريدة الحقيقة

على الرغم من دكتاتورية وطغيان الرئيس معمر القدافي، وارتكابه الكثير من المساوئ والانتهاكات، بل والجرائم أيضاً، ومن بينها اختطاف واغتيال الامام موسى الصدر ورفيقيه، ومذبحة سجن سليم الرهيبة، وتفجير طائرة لوكربي الامريكية، وطائرة يوتا الفرنسية فوق النيجر، وتصفية المعارضين له في الخارج، واعدام الطلبة وتعليق جثثهم على بوابات الجامعات، وغيرها من الجرائم .. لكن وللحق، فإن لهذا الرجل المعتوه (حسنات) عديدة يتوجب ذكرها، ومن بينها، مساندته لحركات وثورات التحرر الوطني في آسيا وافريقيا، لاسيما الثورة الفلسطينية، ودعمها بالمال والسلاح، وكذلك دعم المشاريع والأنشطة الثقافية والاجتماعية المناهضة للامبريالية والصهيونية، خاصة الأنشطة الفنية، ومن بينها الأغنية الثورية الملتزمة.. وفي هذا المجال أستطيع التحدث بإسهاب.. لكني سأتحدث هنا فقط عن محور واحد، يأتي بمناسبة انتفاضة (طوفان الأقصى) وهذا المحور يتلخص في أغنية (وين الملايين.. الشعب العربي وين).. ؟! تلك الأغنية التي استفزت الوجدان الشعبي وهزت العالم العربي من المحيط الى الخليج، ونالت تعاطفاً جماهيرياً عربياً لم تنله أية اغنية عربية ثورية أخرى، بخاصة وأن هذه الأغنية قد ارتبطت في أذهان الجماهير بحدث قومي كبير .. فما قصة هذه الأغنية، وما علاقة الرئيس القذافي بها؟

- حين اندلعت انتفاضة الحجارة الاولى عام ١٩٨٧، استدعى القذافي (شاعره) علي الگيلاني، وهو الشاعر المقرب منه، والملقب بـ (شاعر ثورة الفاتح)، طالباً منه إعداد عمل فني استثنائي،  (مدعوم من قبله)، ليكون مدوياً، وكبيراً بمستوى الانتفاضة وحجمها.. فغادر الكيلاني مقر معمر القذافي ليكتب بعد ساعات لا أكثر أغنية  (وين الملايين)، ويطلب من صديقه الملحن عبد الله منصور، وضع لحن مناسب لها.. وبالفعل قام منصور بتلحينها في الحال

. وبقدر ما كانت كلمات الاغنية بسيطة ومؤثرة، ومزدحمة بالمشاعر القومية، ونداءات التحريض الثوري، كان اللحن مثلها بسيطاً وحماسياً أيضاً، متناغماً مع وجدان وعواطف الجماهير الشعبية العربية الغاضبة، وقد نجح الملحن في ترجمة شحنات النص العاطفية، ترجمة وجدانية باهرة، خاصة وأن مقام الحجاز كار كرد، الذي بني عليه اللحن، مقام مشبع بالحزن والشجن، حتى عدّ المقام الثاني بعد مقام الصبا في حزنه وشجنه وعاطفته.. 

فذهب الشاعر والملحن الى القدافي، وأسمعاه الاغنية في (خيمته)، فأعجب بها، وطلب منهما الاستعجال بتقديمها هدية لأبطال واطفال الحجارة الفلسطينية .. 

وفي الحال قام الكيلاني الذي يملك (دار أجاويد للإنتاج الفني والثقافي)، بالاتصال بالفنانة التونسية سوسن حمامي، التي كانت في زيارة الى ليبيا آنذاك، واتفق معها على ان تشارك في هذه الأغنية بـ (كوبليه) واحد.. كما اتصل بصديقه الموسيقار سهيل عرفة في دمشق، طالباً إرسال ابنته المطربة والممثلة أمل للمشاركة بكوبليه في اغنية تدعم ثوار الحجارة الفلسطينية، وكان له ما اراد، خاصة وان مزاج الشعب السوري منسجم دائماً مع المزاج القومي العربي الغاضب.. 

وتنفيذاً لرغبة القذافي في أن تقدم الأغنية بأصوات نسائية معروفة بالتزامها العروبي، على أن تكون من سوريا وفلسطين وتونس ولبنان .. لم يكن العثور والحصول على موافقة المطربة اللبنانية (الثورية) جوليا بطرس أمراً صعباً، لاسيما وأنها معروفة جداً بمواقفها القومية واغانيها الداعمة لقضية فلسطين. 

وهكذا حضر الثلاثي جوليا بطرس و سوسن حمامي و امل عرفة الى الاستوديو لتسجيل وتصوير أغنية (وين الملايين..)، ولتبث في الحال من خلال شاشة التلفزيون الليبي، ويتلقفها الشارع العربي بسرعة، بل ويتعاطف معها بشكل مثير ولافت، إذ سرعان ما بثتها شاشات التلفزيون الفلسطيني والسوري والعراقي، ولتنتشر في مدن الدول العربية كما تنتشر النار في الهشيم.. 

كما تألقت هذه الأغنية في الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، بعد دخول وزير الدفاع شارون للمسجد الاقصى بشكل مستفز للمشاعر العربية .. وهكذا صارت هذه الأغنية سلاحاً فاعلاً بيد ابطال الانتفاضة الفلسطينية العزل، وهم يواجهون دبابات الكيان الصهيوني، كما صارت أيقونة للثورة، ونشيداً يردده الثوار في كل بقاع الوطن العربي، مثلما بات الصغار والكبار يرددونها في المخيمات الفلسطينية المنتشرة في الاردن ولبنان، وكل الدول العربية، رغم ان الكلمات ( ليبية )، واللحن أيضاً ..!

إن أغنية ( وين الملايين ) التي ظهرت اول مرة عام ١٩٨٨، ظلت متوهجة بجمالها وثوريتها وبهائها الرافض للظلم والاحتلال والخنوع حتى هذه اللحظة.. وهي لعمري واحدة من فضائل معمر القذافي رغم مساوئه العديدة..

وهنا أود أن أشير الى ان الثلاثي الذي أدى هذه الاغنية قد تفرق شمله بعد ذلك.. إذ اعتزلت امل عرفة الغناء وتفرغت للتمثيل، بينما تعرضت التونسية سوسن حمامي الى الاعتقال والسجن ومن ثم الاقامة الجبرية، والاعتزال النهائي للغناء، بأمر شخصي من رئيس تونس المخلوع زين العابدين بن علي-ويقال إن ذلك حصل بتحريض من الكيان الصهيوني- ولم يبق من ذلك الثلاثي الجميل سوى الفنانة اللبنانية العنيدة جوليا بطرس، التي تجوب البقاع والميادين الثورية صادحة بصوتها واغنياتها الداعمة للمقاومة الوطنية في لبنان وفلسطين وغيرهما.

بينما يقيم شاعر الاغنية علي الكيلاني في القاهرة لاجئاً منكسراً بعد سقوط ( جماهيرية) القذافي.

ختاماً اود أن أذكر هنا، أن الصحفية والاعلامية القديرة ابتسام عبد الله - مسؤولة الصفحة الأخيرة في جريدة الجمهورية- كلفتني عام ١٩٩١- باعتباري محرراً في الصفحة آنذاك، باجراء مقابلة صحفية مع الفنانة التونسية سوسن حمامي، التي كانت تزور العراق وقتها للمشاركة في المهرجان الغنائي العربي الذي أقيم تضامناً مع الشعب العراقي، وهو يواجه الهجمات الجوية والصواريخ  الأمريكية والقوات المتحالفة معها. وقد تألقت سوسن في ذلك المهرجان بأغنية وين الملايين - طبعاً لم تشارك امل عرفة وجوليا بطرس في هذا المهرجان لأسباب (سورية) - !!

وللحق فقد ساعدني الفنان الكبير فاروق هلال الذي كان مشرفاً فنياً وادارياً على المهرجان - في توفير الفرصة لاجراء هذه المقابلة الصحفية، وحين سالت سوسن عن شعورها وهي تؤدي هذه الأغنية الثورية على خشبة المسرح الوطني في بغداد وأمام الجمهور العراقي، قالت : صدقاً لا أعرف لماذا وكيف ينتابني شعور عاطفي عارم، عندما أقف امام الجمهور العراقي تحديداً.. وأشعر بطاقة ثورية هائلة، فأتمنى أن تكون بيدي وقتها بندقية لأقاتل بها أعداء الحياة والحب والإنسانية، أقصد أعداء الشعب العراقي ..!

واليوم،وبعد اثنين وثلاثين عاماً على تلك المقابلة، وحيث يتعرض الشعب الفلسطيني في غزة للإبادة على يد الاحتلال الفاشي الصهيوني، صرت أعيد كلمات تلك الأغنية الرائعة وأرددها مع  ذلك الثلاثي الغنائي العربي الجميل، وأقول والحزن والغضب يملؤني، صارخاً بصدق تام:

وين الملايين.. الشعب العربي وين.. الغضب العربي وين .. الدم العربي وين .الشرف العربي وين؟

صدگ ياجماعة، (الشرف) العربي وين -بكسر الواو -؟!

 

ثلاثي اغنية (وين الملايين) سوسن وجوليا وعرفه

علق هنا