الفنان الكبير طالب غالي يخص ( العراق اليوم) بخطاب تأبيني ( شعري) فني، استذكاري، عن الراحل كريم العراقي ..

العراق اليوم - خاص

كتب الفنان الكبير طالب غالي في رحيل الشاعر الكبير كريم العراقي.. وأي جمال وروعة وصدق كتب؟

والجميل أن ( أبا لنا) خص ( العراق اليوم) بما كتب.. اليكم هذه التحفة التأبينية الرائعة لأبي لنا:



الغُربةُ أورثتنا  الحُزنَ ،،

وأطعمتنا 

الخسارات،،                       وأوجاعَ الذكرى.

كيف لي أن أسترجعَ أحداثَ سنواتٍ طواها العمرُ ،، 

وإنطوت تحت سنابك دورة الأيام .

وحتى إذا استحْضَرَتْها الذاكرةُ ..،،

فهل ستكون بمثل ذلك الألقِ  والوضوح… أشُكُّ في ذلك .

لكني سأستنهضُ مُحرِّضاً  ومُحفّزاً ذاكرتي على التوهج لاستعادة وقعَ وشكل الاحداث لتلك الايام الماضية.

وبخاصةِ ما يتعلقُ الامرُ ب.. 

    الشاعر الراحل كريم العراقيّ.

وسأحاولُ أن ابتعد عن أيّ مدخلٍ يأخذني الى مفازة الأحزان،،

فقد قرأتُ الكثير مما كُتبَ في هذا الموضوع من أصدقاء ومحبّي الشاعر الراحل

كريم العراقي..

وآلمني حدّ التمزقِ مقالٌ مُثيرٌ كتبهُ الشاعر فالح حسّون الدراجي لما احتواهُ من حُزنٍ 

وألمٍ  وشجنٍ غطى حتى حروفَ كلماتهِ .

 سأكتبُ مستذكراً جانباً آخر يخففُ عني وعن الآخرين مرارة الحزن ولوعة الفقد.



                   ! ! ! ! ! ! ! ! 

 قبل أكثر من خمسين عاماً أو يزيد إلتقيتهُ ،، 

شاباًيشتعلُ حيويّةً ومرحاً واندفاعاً في حفلِ مناسبةٍ وطنيّةٍ في مدينةِ الثورة

وكنتُ أحد المشاركين بفعالية غنائيةٍ فيها .

 وحان دورُهُ .. فألقى قصيدةً باللغة المحكيّة ،،

أثارت في نفوس الحاضرين 

وفيَّ الحماس والبهجة والانشاد بأهازيج تتغنى بحب الوطن والحرية والمحبة والسلام.

كُنتُ وأنا الملحّنُ الذي يبحثُ عن نصٍّ غنائي جديد ،، 

أسرعتُ اليه معانقاً ومهنئاً  ،، عرّفتهُ بنفسي وتحدثنا عن الشعر والأغنية

 ودورها وتأثيرها في نفوس الجماهير وذاكرتهم في هذه المرحلة الجديدة والتي غشيها هامشٌ من الحُرٌيٌة والتعبير والذي أنتج حراكاً وحيويةً في المشهد الثقافي والاجتماعي.

        كان هذا الشابّ الحيوي …هو كريمُ  العراقي…

         ومن هنا زمناً ومكاناً بدأت علاقتي به وتواصلت وتعمقت. 

وفي عام ١٩٧١ كان لنا أولّ لقاء في أغنيةٍ كتب نصَّها كريم .

               : : : : : 

 عمّي عمّي يبو مركب 

    يبو شراع العالي

بالهوى يرفرفْ قميصك

والهوى شگد عالي .

     ،،،،،،،،،،،،،

رايحين نشوف أهلنه شلونهم 

والله مشتاگين نور عيونهم

عمّي ذاك طوير جنّة

جاي من نخلة اهلنه

يمته تكبر يا وطنّه

ونحرسك يلغالي.

           : : : : : : 

عمْي شدٌ الصاري بيدك

وابحر بشط العرب

يبو ثوب أزرگ مطرٌز

بالنُجوم وبالتعب.

نصٌّ جديدٌ وحديثٌ في معناهُ  وصوره    في تلك الأيام .

وأنا أرى ومن خلال تجربتي اللحنية والشعريّة ،، 

أنّ النصّ الجميل بمحتواهُ وشكلهُ يستدعي لحناً متميزاً وبعيداً عن المألوف والجاهز ،، توصْلتُ إلى صياغتهِ فأستوى لحناً جميلاً 

  وممٌا زاد في جماليتهِ وروعتهِ أنَّ من غنّاهُ هو الفنان الكبير الراحل.. 

            فؤاد سالم،، 

 وعرضهُ مُصوّراً التلفزيون العراقي.. 

وقد تمّ مسحهُ بعد سنواتٍ من قبل النظام الحاكم بعدَ  اشتداد حملته وملاحقتهِ للعناصر التقدمية المعارضة لنهجه واستبداده في الحكم ،، وأتلف الكثير من الاعمال والنتاجات الادبية والفنيّة التي تتبنى فكراً وطنيّاً تقدّمياً .

      كريم … كانَ شاعراً ذكيّاً ،، 

يكتبُ شعرهُ بأناقةٍ  ورهافةٍ وتعبير أيحائي .

     تتدفقُ في شعره الصور الشعرية واضحةً وشهيّةً كخبز التنور ،، فهو لا يتكلف بكتابة شعرهِ ولا حتى بقراءتهِ .

فتجد معظم قصائدهِ يتمازجُ فيها الوجدانيّ بالسياسي .

تستمتعُ معهُ حدّ التهويم في جلساتهِ الشعرية لعذوبة وجمال ما يكتب من شعر وخاصةً الشعر الشعبيّ .فهو  فهو يمتلكُ ذاكرةً بعدسات متعددة ولواقط ممغنطة وشديدة الحساسية .

فهو لا يقرأ قصائدهُ مكتوبةً على ورقة

فتراهُ وتسمعهُ يلقي شعرهُ وكأنَّ أمامهُ شاشةًمضيئةًبحروفٍ واضحةٍ وهو يرتّلُ قصائدهُ .. 

    زارني كريم مع صديقهِ الشاعر كاظم السعدي في بيتي بالبصرة 

مرتين ..وفي كلّ مرةٍ تمتدّ الزيارةُ أسبوعاً  او اكثر.

فما ابهجها من ليالٍ تلك التي عشناها معاً وما اغنى ما دار فيها من حوارٍ ونقاشٍ وغناء وقراءات شعرية.

نسهرُ لساعاتٍ متأخرةٍ من الليل .

 شاعرانِ شابان سطع نجمهما في تلك الفترة الزمنية ،،  

يتناوبان قراءة قصائدهما الجديدة وماقبلها 

فحين يقرأ كريم قصيدتهُ وبإلقائه المتميز تُحسُّ بأنهُ يرسمُ كلماتهِ بوجيب قلبهِ

 ويُجنّحها برقةٍ ويُضمّنها معنىً ايحائياً رائعاً ..  

ومن بين ما قرأهُ كريم والتقطتهُ 

كان نصٌاً شعريٌاً باذخ المعنى والصور الشعرية  .

و كان يُعبّرُ عن  لسانِ فتاةٍ عراقيةٍ ترفض الرحيل عن موطنها… /بيتها /.

     الأغنية حملت عنوان ..

                   المغزل 

   ما دام بيدي المغزل 

   أكدح يبويه واعمل

من بيتي تطلع الشمس

هيهات أعوفه وأرحل

            … … … 

يا مغزلي ذرّي ذهب

 واحصد الراحة بالتعب

يا آنه يا بت الشعب

 گلبي وإيديّه معمل

          … … … 

خطيبي يا ابن الشمس

لتخلّي قصتنه همس

بيدي غزلت ثوب العرس

وإنتَ خميسك طوّل.

  في هذا النص الغنائي إيحائية ورمزيّة عالية وجميلة جداً ،،

تعاشق معها لحنٌ رقيقٌ يتهادى مع الصوت الانثوي المُضمّ بالشذى

  ومن بعدهِ قرأ الشاعر كاظم السعدي ،، 

الذي يُركزُ على الشكل والتناسق اللفظي والمعنى ،،

لتكون قصيدتهُ منحوتةً بإمعان وحرفيّة.

هللّه هللّه يا سمه

 ويا شمسنا الباسمة

من فرحنه يا شعبنه

مدري طرنه ليا سمه

        … … … 

من كُثر فرحتنه صار

كل وجهْ شمس ونهار

الورد فتّح والزغار

بين فيّه وميسمه 

            … … … 

من كثر ما بينه شوگ

طرنه فوگ وبعد فوگ

صرنه للنجمات طوگ

بينه يتباهى السمه

            … … … 

واستمرت تلك الليالي .. ليالي السمر والمتعة والعطاء ،، 

بين الشعر والغناء والاحاديث المتنوعة ،،

عن السياسة والادب والنكات والارتجالات الشعرية والغنائية.

فما زال عندي كاسيت مُسجّلٌ عليه بعض ما دار في تلك الليالي 

أحتفظ به للآن يجمعنا نحن الثلاثة وبعض الاحبة في درج المكتبة.  

          والتقينا ثانيةً في اغنيةٍ أخرى كتبها كريم لمناسبةِ ذكرى عيد الحزب الشيوعي في الذكرى ال…43 .. لتاسيسه حيثُ قدمتها فرقة الطريق البصرية  مع أغنيات وطنية أخرى ،، والتي أترأسها آنذاك 

على مسرح قاعة نقابة المعلمين 

في بغداد.. 

         وهذا نصُّها .

               الدنيا گُبّة خضرة

               مفتاحها بيدينه

               وتشمّسي بغدادنا

               جبنه الشمس وإجينه.

                      … … … 

    إحنه خويط الليلو 

    شو عن دربنه ميلو

    واحنه مخدة العرس

    حنّت  ضفايرنه الشمس

نفرح سوه … نغني سوه … شوك ووردْ حُوينه

ما تگدر إليه يا بحر ما دامنه بسفينة.

                    … … … 

إحنه ثلج كردستان

وإحنه شمس كردستان

شلال خدنا بالشته 

 وبالصيف خدنه رُمّان .

نفرح سوه… نغنّي سوه… شوگ ووردْ حُوينه

ما تگدر إلنه يا بحر ما دامنه بسفينة

                   … … … 

مثل هذا النصّ الشعريّ الجميل والانيق والذي يوحي بمضمون ومعنى عميق،،

يفرض على الملحّن ايجاد وصياغة لحنٍ يرتقي الى مستوى نبضه الشعري ،،

وشكلٍ ونغمٍ وإيقاعٍ يتواءم معهُ ويُعليهِ .

فجاء اللحنُ متهادياً وموقّعاًبنبرات غنائية وانسيابية ممتعة.

بعد هذا اللقاء صعّد النظام الحاكم من ملاحقاتهِ لكُلِّ من يعارضُ نهجهُ وسلطتهُ ودمويتهُ … …  وتباعدنا.. وإبتعدنا عن بعضنا .

غادرتُ أنا بصرتي ووطني قسراً إلى الكويت ،،

ولم اسمع عن كريم خبراً

  ولم أسمعْ عن كريم خبراً إلاّ بعد سنوات ،،

حين لمع اسمهُ مع الفنان العراقي كاظم الساهر 

حيثُ ابتدأ التعاون بينهما فكتب له نُصوصاً غنائيةً جميلة وكثيرةً.

كريم شاعرٌ لهُ خصوصيتهُ،،

يمتلكُ ذاكرةً قلّ نظيرها ،، 

ويتفاعل مع الأحداث بسرعة، ويستجيبُ لها ويصف ما تأثرّبه 

عاطفيّاً كان الحدث أم وطنياً ام غزلاً ،،

فيصوغ انفعاله أو تفاعلهُ شعراً جميلاً.

ومن جانبي كُنتُ أتابعُ ما يستجدّ من نشاطٍ شعريّ يمارسُهُ كريم.

والتقينا بعد سنوات في السويد

حيثُ قصدها كريم العراقيّ لاجئاً

وباحثاً عن سكنٍ وحياةٍ توفر له ولعائلته الامان والطمأنينة والحياة الكريمة.

 باتت علاقتنا تُغذّيها لقاءات متباعدة،، 

كأن تكون هناك مناسبة وطنية أو دعوة لحضور أمسيةٍ شعريّة 

يكون كريمُ فيها فارسها وشاعرها. 

او من خلال نشاطاته المتعددة  ومشاركاتهِ في المهرجانات الأدبيةفي مدُنٍ كثيرة عبر الفضائيات وتحت عناوين مختلفة.

 وفي السنوات الأخيرة علمتُ بمرضهِ الذي قاومهُ كريم بعنادٍ وبصبرٍ وتحمّلٍ 

شديد ،، والذي تحدث عنه كريمُ في لقاء متلفز بإفاضةٍ وافية شارحاً إصابتهُ بالمرض الخبيث حيث قال ..أريد أن أموت واقفاً كالنخلة ،،

   وظلّ مستمرّاً في عطائه وندواتهِ الشعرية وهو يحملُ في أعماقه الاحساس بنهايتهِ المؤكدة .

 وكان آخر ما انشدهُ من شعرٍ وأكّد عليه قصيدة مطلعها

               لا تشكُ للناسِ جُرحاً انتَ صاحبُهُ

               لا يؤلمُ الجرحُ إلاّ من بهِ ألمُ .

  وحانَ  وقتُ الرحيل ……. ودون وداع ٍ …

  غادرنا كريم بهدوءٍ ودون ضجّةٍ ومُقدّمةٍ وإعلان.

  لروحهِ السكينةُ والراحةُ الأبديّة.

علق هنا