بغداد- العراق اليوم:
افتتاحية جريدة الحقيقة
فالح حسون الدراجي
تمرُّ علينا الذكرى الثانية والستون لملحمة البطولة والكرامة والشرف التي قادها الشهيد البطل العريف حسن سريع، ضد سلطة البعث الانقلابية الفاشية.. والتي عرفت بانتفاضة معسكر الرشيد، أو حركة حسن السريع.. إن هذه الملحمة الثورية الاستثنائية الفريدة التي لم يأتِ التأريخ السياسي والثوري والعسكري بمثلها، والتي تشرفتُ بتمجيدها بأغنية موجعة أدّاها فنان الشعب فؤاد سالم، أقول إن هذه الانتفاضة التي لم تدم سوى ساعات معدودة تركت آثاراً عظيمة وعميقة في طريق الكفاح والتحرر الوطني، رغم ظلم التاريخ وتجاهل المؤرخين لها عن قصد وإصرار، إلا من قلة قليلة جداً من المؤرخين النزهاء وذوي الضمائر البيض التي لم تلوثها النوايا والأحقاد ... لقد أدهشت حركة حسن سريع الأعداء والأصدقاء من أصحاب الشأن وذوي الاختصاص، سواء بسرعتها، أو بنوعية وبساطة المستوى العسكري والحزبي لقيادتها، أو بما اتسمت به من سرعة فائقة وجرأة وإقدام وجسارة فذة لم تتسم بها حركة أخرى، فرغم قسوة الظروف، ودموية الأحداث التي كان يمر بها البلد آنذاك، وعدم توفر الظروف الموضوعية والذاتية لانبثاقها، لكن الحاجة الوطنية الملحّة عجلت بقيام الانتفاضة حتى لو لم تحقق النجاح التام، إذ يكفي أنها وجّهت صفعة قوية لسلطة البعث وللدوائر الغربية والإقليمية التي كانت تقف خلفها.. لقد كانت انتفاضة فذة أعادت الأمل لشعبنا الجريح، والثقة للقوى الوطنية، رغم شراسة السلطة، وعقوبة الموت التي كانت أبسط العقوبات التي يمكن ان ينالها من تشك عصابات البعث بولائه، فما بالك بمن يرفع السلاح بوجهها، ويقوم بحركة انقلابية لإسقاطها ؟! أنا لا أريد هنا أن أتحدث عن ( عظمة ) هذه الحركة البطولية التي زلزلت الأرض تحت اقدام انقلابيي شباط الأسود، وهزت بقوة أركان وعرش سلطتهم الفاشية، ولا أتحدث عن قيمة منجز الحركة المادي والمعنوي والسيكولوجي الرافع لمعنويات الشارع الشعبي العراقي الذي كان محبطاً ويائساً ومرعوباً بسبب جرائم ودموية الحرس القومي وأفعاله الإجرامية المشينة والقذرة.. كما لن أتحدث عن الآثار التدميرية التي تركتها الحركة على بنية السلطة البعثية، خصوصاً من ناحية العلاقة بين ( رئيس الجمهورية ) عبد السلام عارف، وقيادة البعث، وحجم الخلافات بين هذين الفريقين، وهو الأمر الذي دفع بالرئيس عارف إلى إصدار قرار بإعفاء قائد الحرس القومي منذر الونداوي المحسوب على زعيم الحزب علي صالح السعدي، وهو ذات القرار الذي أدى الى نشوب خلافات ومعارك دموية طاحنة بين الطرفين، وصلت حد القصف بالطائرات والدبابات، وانتهى باستسلام البعثيين وسيطرة عارف سيطرة تامة ومطلقة على زمام السلطة. وطبعاً فإني لن أتحدث أيضاً عن النتائج الآنية والمستقبلية التي حققتها ملحمة 3 تموز الفريدة، لكني أردت الحديث فقط عن أمر مهم أفرزته الحركة، أمر يتعلق بقائدها حسن سريع، الذي يتهمه بعض المؤرخين باتهامات ظالمة ومغرضة تخفي وراءها عقداً طبقية واجتماعية ونفسية ومناطقية كثيرة، كاتهامه بالقروية والتخلف، وفقر المستوى العسكري، ورتبته العسكرية الواطئة - عريف مهني- وافتقاره إلى المؤهلات القيادية كالخبرة والحنكة المطلوبة، واتهامه بتواضع مستواه الدراسي - علماً أن حسن سريع كان طالباً في الصف الثاني من كلية الاقتصاد، جامعة بغداد، القسم المسائي - كما اتهموا حسن سريع بالتسرع بل والتهور أيضاً.. ولعل النقطة التي صدمتني كثيراً هي اتهامه بالدموية وسفك الدماء، بينما يشهد له خصومه أنفسهم بأنه أوقف عملية اعدام عدد من قادة حزب البعث الكبار أمام احد الجدران في معسكر الرشيد بعد وقوعهم أسرى بيد الثوار بدقائق، والقادة هم: قائد الحرس القومي (منذر الونداوي) و وزير الداخلية (حازم جواد) الذي كان يشغل منصب الأمين العام لحزب البعث، وكذلك وزير الخارجية (طالب شبيب) والكادر الحزبي المتقدم بهاء شبيب، ومعهم في الأسر وقع أيضاً آمر كتيبة الدبابات الأولى وغيرهم.. ورغم شدة الرصاص وهول المعركة وخطورة الظروف، فإن حسن سريع لم ينسَ قيمه الشيوعية التي تربى عليها، فهو لم يكتفِ برفض وإيقاف إعدام هؤلاء القادة، إنما قام بتوبيخ رفاقه قائلاً: " كيف تريدون إعدامهم بلا محكمة ولا دفاع، نحن لسنا قتلة و لا انتقاميين، إنما نحن ثوار ، وأصحاب قضية شريفة وعادلة " ..! ولا أعرف هنا كيف يُتهم فتى يحمل كل هذه القيم الأخلاقية والوطنية، وهذه المبادئ الإنسانية، بالتهور والدموية وسفك الدماء ؟! أما عن رتبته التي لا تؤهله لقيادة ثورة أو انتفاضة كما يدعي بعض المؤرخين، فأعتقد أن في التاريخ أمثلة عديدة عن أشخاص برتب متدنية جداً قادوا ثورات ووثبات كبيرة دون أن يتوقف المؤرخون لحظة عند رتبهم. فهل من العدل أن نقف صامتين إزاء التاريخ وهو يمجد (العريف ) هتلر، رغم جرائمه الشنيعة التي تسببت بقتل ثمانين مليون إنسان بريء، ونسكت على ( تطبيل ) بعض المؤرخين ( العروبيين) لهذا الزعيم النازي، بينما نراهم ينظرون بعين الازدراء والاحتقار لعريف عراقي نجيب، شهم وشجاع، حمل روحه على كفه، مضحياً بحياته من أجل كرامة شعبه، وانقاذ بلاده من أيدي عصابة فاشية تجاوزت بأفعالها جرائم الصهاينة بحق فلسطين .. إن ( العريف حسن سريع) ثائر وطني محض، لم يقم بثورته من أجل غاية، أو منفعة شخصية، ولم يسعَ إلى منصب حكومي مثل غيره من قادة الانقلابات العسكرية والحزبية العربية، بدليل أن الضابط العراقي (محمود علي سباهي) يذكر أنه رأى حسن سريع في التحقيق " مدمىً" وهو يجيب على اسئلة رئيس المحكمة العسكرية الصورية المشكلة خصيصًا لمحاكمتهم، ومن بين تلك الاسئلة سؤاله : "هل تريد أن تصبح رئيساً للجمهورية وأنت عريف؟" فأجابه حسن "ما أردت أن أكون رئيسًا للجمهورية أو حتى ضابطًا في الجيش، إنما أردت أن أسقط حكومتكم" ويقصد حكومة البعث وعبد السلام عارف. ولما سأله رئيس المحكمة العسكرية العقيد (شاكر مدحت السعود) قائلاً : "وماذا بشأن الذين اعتقلتموهم؟" فأجاب حسن قائلاً: "كنا سنحاكمهم، بدليل أننا لم نقتلهم رغم الظروف الدامية التي كنا فيها "! نعم، لقد كان الشهيد البطل حسن سريع صادقاً في قوله، و يؤيده في ذلك البيان الذي أصدرته الحركة والمتضمن تشكيل حكومة وطنية مدنية تقود البلاد بعد نجاح الثورة، وجاءت الحكومة على الشكل الاتي : رئيس الجمهورية كامل الجادرجي، رئيس الوزراء المقدم سليم الفخري، نائب رئيس الوزراء الملا مصطفى البرزاني .. وتضم الحكومة وزراء ديمقراطيين من الحزب الوطني الديمقراطي ومن الحزب الديمقراطي الكردستاني ومن الحزب الشيوعي العراقي، و من المستقلين، ومن مختلف أطياف العراق وقومياته بما فيها اختيار جلال الطالباني ليكون وزيراً للإسكان، و رحيم عجينه وزيراً للصحة وشاعر العرب محمد مهدي الجواهري ليكون وزيراً للثقافة... إلى آخر التشكيل المدني. وهكذا نرى بما لايقبل الجدل او الشك كيف اختزل التاريخ العربي (الظالم ) ومعه جوق المؤرخين ( الشوفينيين ) كل روعة وبسالة وأهداف هذه الملحمة الوطنية الثورية بكلمة ( تمرد) !! وكيف تم اختزال عظمة قائد هذه الملحمة، حسن سريع برتبة ( عريف ) وأحياناً ( نائب عريف ) !!
الشهيد البطل حسن سريع
*
اضافة التعليق