بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي
مات ( أخي) كريم أمس، فبكته (العائلة) العراقية برمتها.. وحزن لرحيله العراق من جنوبه الى شماله، ومن شرقه الى غربه.. وليس غريباً قط ان تدمع عينا الريف والمدينة لأجله معاً، وينعيه الشيوخ والشباب من الرجال والنساء والامهات أيضاً.. وسيكون الغريب لو حدث العكس.. وصدقاً أني لم ار إجماعاً وتوحداً في المشاعر كما حدث في رحيل كريم.. ولم ارَ في حياتي شاعراً فطر برحيله أفئدة العراقيين كما فعل هذا الفتى (العراقي) .. لقد كنت أظن أن منتخبنا العراقي وحده قادر على توحيد مشاعر العراقيين، وهو امر رأيناه ولمسناه بالتجربة، أما أن يفعل شاعر لوحده وهو الذي لا يملك غير شعره، ويتمكن من التأثير على عواطف الناس جميعاً، فهو أمر لم يكن يخطر على بالي قط، رغم أني أعلم كم يحب العراقيون كريم العراقي..! إن هذه ( الوحدة) التي حصلت عند رحيل كريم أمر يجعلنا جميعاً - مثقفين وغير مثقفين- أمام حقيقة واحدة مفادها أن وحدة مشاعر العراقيين، واصطفافهم، ليس أمراً مستحيلاً، ولا صعباً أيضاً .. إذ يكفي أن يكون بيننا شاعر واحد مثل كريم العراقي، حتى يتحقق الجمع، وتتوحد القلوب .. ولكن المشكلة هي أين سنجد شاعراً مثل كريم لنقف جميعاً تحت مظلة عراقيته الواسعة ؟! والآن دعوني أوضح لكم وأقول إن الذي مات امس هو (كريم عودة لعيبي)، وليس الشاعر كريم العراقي.. ورغم أن كريم عودة لعيبي وكريم العراقي هما جسد واحد وروح واحدة ودم واحد، لكن ثمة فرقاً بينهما.. فكريم عودة لعيبي شخص كبقية الأشخاص، يولد ويعيش ويموت، ويمضي لمثواه الأخير دون أن يظل منه أثر ما.. اما الشاعر كريم العراقي، فلن يموت أبداً.. لأن الشاعر كائن خرافي عصيّ على الموت والاندثار، إذ كيف (يموت) شاعر مثلاً، وله عندنا 700 أغنية، تعيش في وجداننا، وتمشي في دمنا، وتأكل وتشرب وتنام وتصحو معنا، ناهيك من مئات القصائد والقصص، والاوبريتات والمسرحيات والحكايات واللقاءات والفيديوهات .. ووووو ..
ولا اعرف كيف سيموت شاعر اودع في خزائن قلوبنا 700 أغنية، فيها الغزل العذب، والفراق المرّ، وأسى الخيانات العاطفية الذي مررنا به - نحن العشاق المساكين- وفيها دموع وآهات وأشجان، بقدر ما فيها من هدايا الفرح والجمال والمتعة ؟ كيف يموت من زرع كل هذا الضوء الباهر في عتمة أيامنا، وكيف يمكن لاحد ان ينسى تلك الروائع التي رسمها كريم بفرشاة الحب على جدران قلوبنا؟ كيف يموت شاعر وتنساه ذاكراتنا، وهو العراقي الوحيد الذي لحن من كلماته الملحن الكبير بليغ حمدي أربع أغنيات بصوت الفنان سعدون جابر.. والوحيد الذي غنى له القيصر أكثر من 100 أغنية.. وليس سراً أكشفه حين أقول بأن كريم هو الشاعر العراقي الوحيد الذي يلهث خلفه النجوم والمطربون العرب من اجل أن يفوز أحدهم بكلمات أغنية من إبداعه، بل أن بعض المطربات العربيات رحن يطلبن وساطة كاظم الساهر من أجل تحقيق ذلك ..! لا أريد أن ازيد في الحديث عن كريم الذي يحفظ صغارنا قبل كبارنا اغنياته وقصائده، حتى بات أيقونة الشعر والغناء العراقي. وللأمانة أذكر أني تلقيت أمس واليوم أكثر من 150 رسالة تعزية، ومواساة من أصدقاء واحبة يعرفون جيداً العلاقة الطويلة والعميقة التي بيني وبين كريم العراقي. تلك العلاقة الفريدة والمميزة جداً، و التي تمتد فصولها الى براءة النفوس في الصف الثاني متوسط /متوسطة المصطفى / قبل أكثر من خمسة وخمسين عاماً، وظلت فصولها تتواصل حتى اللحظة التي ارتحل فيها كريم لأبديته المعطرة بأريج نقائه وطيبته وخلقه العالي.. هي رحلة قاربت الستة وخمسين عاماً.. ورغم مداها الشاسع، لم نختلف يوماً أنا وكريم قط رغم كل مرارات الحياة وقسوة الظروف،وحتى إن اختلفنا، يوماً، فلن يكون سوى اختلاف -أخوة- ليس أكثر. كان كريم سنداً لي في كل هذه السنوات، وكنت دريئة قوية له.. وبقدر ما كان كريم يفرح لأي منجز أحققه في الشعر أو في الصحافة، كنت بالمقابل جداراً لكريم، يستند اليه في الملمات والمصاعب، ولم أنحن يوماً او أضعف او أشتكِ من احماله مهما كانت- خاصة وان حمل كريم لم يكن ثقيلاً قط، إذ كيف يكون ثقيلاً على صاحبه، من كانت روحه شفيفة ورشيقة مثل حمامة السلام ؟! ولما أناديه بكلمة أخي ..! كنت صادقاً في ذلك، فقد كان كريم أخاً حقيقياً لي ولأخوتي.. وكانت أمي تنافس والدي في محبة كريم .. لذلك كان يقضي ساعات عديدة في مجالسة أمي، والتحدث معها في شؤون الشعر والتراث، وكثيراً ما كان يتناول الغذاء معها في صحن واحد، حتى أنها مازحت شقيقه رحيم يوماً وهي تقول له باريحيتها : يمه رحيم، ترى كريم صار إبننا وبعد ما ننطيكم أياه. وللحق فإن كريم لم يكن محبوباً من قبل أمي وأبي فحسب، بل كان أخوتي كاظم وقاسم وشامل وصلاح، يحبونه جداً .. حتى أن شقيقي شامل أقام في بيته قبل ثلاث سنوات وليمة غداء كبيرة لكريم حضرها الاعلامي المعروف حسام حسن واللاعب السابق حامد جبر وغيرهما من الأحبة.. أما آخر لقاء لي بكريم، فقد كان قبل سنة، حين اتصلت به، وأنا أقول له: أنا في دبي !! فصاح : عظيم إذاً غداً نلتقي يا فالح النقي ! قلت: كيف، والمستشفى؟ قال: سأغادره غداً خلسة وألتقيك في دبي.. وهكذا جاءني في اليوم الثاني وهو يضع على رأسه قبعة (شفقة)، بعد أن أسقط (الكيمياوي) الكثير من شعره.. وفي احد مطاعم مول الامارات، جلسنا ثلاث ساعات، وقد كانت أحلى ثلاث ساعات في عمرنا، تحدثنا فيها بكل شي، وقد قرأ لي آخر كتاباته، وقرأت له بعضاً مما كتبت.. كما استذكرنا الماضي وأيامه بحلوها ومرها، وعرجنا على ذكريات كانت منسية في زوايا ذاكرتينا.. وفي هذه الجلسة اللذيذة تذكرنا أصدقاءنا واحداً واحداً.. وضحكنا بكل طاقتنا .. ثم تعانقنا بعد أن تناولنا غداءنا، وعند العناق لمحت دمعة تنزلق على خده.. فهل كان كريم يعلم أنه اللقاء الأخير .. وأننا لن نلتقي مرة أخرى؟ ولعل المؤلم أن كريم اتصل بي السبت الماضي في الساعة الرابعة فجراً - بتوقيت امريكا- وطبعاً كنت نائماً، وحين نهضت ووجدت المكالمة الفائتة حزنت حزناً شديداً.. واتصلت به عدة مرات، ثم ارسلت له مسجات دون جواب.. فاضطررت الى الاتصال بشقيقه الصديق رحيم، وإخباره بالمكالمة الفائتة، والرسائل التي ارسلتها له دون جواب، وهو الأمر الذي لم أعتده منه حتى في أسوأ حالات مرضه، فطمأنني رحيم مؤكداً لي أن كريم سيأتي بعد أيام قليلة لزيارة العراق.. ويبدو أن كريم وبعد أن يئس من الاطباء قرر أن يموت ويدفن في العراق.. دون أن يخبر أهله بسرٌه.. حتى تلقيت خبر رحيله أمس من الصديق الاذاعي خطاب عمر أولاً، ثم من الصديق عباس غيلان.. ثم رحيم العراقي، حيث رحت وإياه في نوبة بكاء انتهت بنقلي لمستشفى الطوارئ . إن الذي (قتلني) حقاً هو سؤال ظل يراودني مفاده: لماذا يتصل بي كريم الان، هل علم بقرب رحيله.. فأراد أن يراني ليودعني، ام أراد ان يوصيني بوصية معينة، ام تمنى حضوري والوقوف عند رأسه ساعة الرحيل المرّ ؟
آخر بصمة صوتية بين الشاعرين كريم العراقي وفالح حسون الدراجي قبل فترة قصيرة :
*
اضافة التعليق