الجواهري الذي رآى الدنيا.. يستعيدُ ركنه الاثير في مقهى سلافيا في براغ  التي احبها وعشقته

بغداد- العراق اليوم:

مضت سنون طوال، ومضى ذلك الشاعر الفحل، اخر العمالقة، واشخص شعراء عصره، نابغة زمانه، وحكاية قرنه، الرجل الذي عاش، وروى، حكى ومضى، تذكر ونسى، او تناسى، والى وعارض، احب وكره، اعرض واقترب، ولم يترك من الشعر شاردة، ولا من القريض واردة الا اتاها على استحياء تارةً، وعلانيةً مرات، الجواهري المندلق من عصر المتنبي وأبي تمام، لزمان غير زمانه، والذي مر بالمدن، فترك خلفه ما ترك، وأبقى من عظيم قصائده ما خلد، فصار للناس حكاية، وصارت قصائده عناوين مجد، يحج إليها اولئك الباحثون عن نغم الكلم، وعظيم المعنى وجمال المبنى وهندسة الصور الآسرة، فكان كل ذلك في رجل نجفي نحيف، يعشق اصفهان مرةً ، فيكتب عن جمالها ما يغيض طائفياً متعصباً كساطع الحصري، فيفصله من وظيفته وهو في ريعان شبابه، ويخوض من أجل معركة كرامة الشاعر الممسوسة بجنون وهوس اؤلئك القابعين في تجاويف رطبة.

يهرب الجواهري من ربقة الحياة العراقية الصاخبة الى براغ في تشيكوسلوفاكيا (آنذاك)، ويتخذ من مقهى سلافيا ركنًا قصيا، تلك المقهى التي سبقه إليها شاعر تركيا العظيم ناظم حكمت، وضمت في زواياها انفاس كبار الادباء والكتاب والمثقفين في العالم، لكن الجواهري كان اعمقهم في الولوج الى جوهر المكان، واطولهم (قامة)، واقامةً ومكوثاً. 

فكان ابن المدينة «براغ» و وريث مقهاها الأثرية التي يعود تاريخ تأسيسها الى ١٨٨٢ ميلادي، ومن تلك المقهى في تلك الحاضرة الساحرة كتب قصائده ودواوينه الشهيرة مثل "دجلة الخير"، و"قلبي لكردستان"، و"حوار مع براغ"،   و"أيها القلق"، و"فتى الفتيان".

وفي مقهى (سلافيا) وسط براغ المطل على نهر (الفلتافا)، الذي يبعد عن المقهى عدة أمتار، أنشد الشاعر أبيات شعره التي أكد عبرها قناعته بجمال المدينة وسحرها قائلا:

أعلى الحسن ازدهاء وقعت

أم عليها الحسن زهوا وقعا

وسل الجمال هل في وسعه   

فوق ما أبدعه أن يبــــدعا

امضى الجواهري ثلاثة عقود من عمره مقيماً في هذه المدينة، مع تنقلاته المستمرة، فتركت في نفسه أثراً واضحاً، حتى أنه قال انها: اي براغ، كانت سبباً في ان يمتد عمره الحافل، فكتب قائلًا:

أطلتِ الشوطَ من عمري 

 أطـــالَ اللهُ مـــن عُــمـركْ

ولابُــلــغــتُ بــــالــشــرِ

ولا بــالسوءِ مــــن خَبرك

حـسوتُ الخمرَ من نهَرك

 وذُقـــت الحلو مــن ثَمرك

وغنت لـــي صوادحُــــك 

النشاوى من ندى سحرك

الا يــــا مــزهـــــر الخلد 

تــغـنــى الدهرُ في وتَرك

ورغم هيام الجواهري ببراغ وارباضها، وعشقه اللا محدود لتلك المناظر الجميلة، والطبيعة الخلابة، الا أنه ورغم عظيم اثره الثقافي عربياً، لم يحظ بالقدر الكافي من الاهتمام الثقافي والأدبي من ادارة هذه المدينة، ولربما يعود ذلك الى كون الجواهري يكتب باللغة العربية الصعبة على سكان ذلك البلد، حتى ان إدارة مقهى سلافيا لم تهتم بالقدر الكافي والمناسب بركن رائدها الشهير، وتفاجأ من زار المقهى قبل اعوام بشغل ركنه المفضل في مواجهة النهر والقصر الرئاسي، حتى جاءت مبادرة السفير العراقي المقيم في براغ، الدكتور فلاح عبد الحسن الأخيرة باستعادة ذلك الركن، ليستعيد الشاعر كينونته، ويستعيد عبر ذلك التكريم المعنوي، وجوداً  أقصته سنوات النسيان، فكانت هذه المبادرة التي ان دلت على شيء إنما تدل على وعي وثقافة هذا السفير الذي ينتمي للثقافة الوطنية التي تحتفي برموز العراق، وتبحث عن كل أثرٍ يدل على عظمة هذه البلاد العصية على الفناء.

اليوم يستعيد الجواهري ركنه، ذلك الذي جالس فيه اعاظم الكتاب والأدباء والمفكرين العراقيين والعرب، وجالس الكاتب التقدمي الوطني الكبير شمران الياسري «ابو گاطع»، والمفكر العراقي عبد الحسين شعبان والقائد الشيوعي مفيد الجزائري، وغيرهم من رموز وطنية وابداعية، وهي استعادة مهمة ثقافيًا للعراق، فليس سهلًا البتة ان تخصص اي مقهى بعمق (سلافيا ) التاريخية، ركناً لشاعر عربي، ولكنها دبلوماسية الثقافة وحوار الحضارات والثقافات والتنوع الذي يعيه سفيرنا الدكتور فلاح عبد الحسن، والذي يدرك حتماً عظمة تأثير القوى الناعمة في المجتمعات الاوربية والغربية، وكيف يمكن ان تحول الثقافة الى قوة جذب وتفاهم وتقارب بين الشعوب والأمم.

 اذن هي كلمة شكر وثناء وتقدير لجهود السفير، وهي أيضاً مناسبة للتذكير بأهمية الاحتفاء الدائم برموز العراق وقادة الفكر والثقافة والجمال فيه، فهولاء رأسمال حقيقي، وكنز لا يفنى، وهؤلاء هم من يشكلون الصورة الذهنية لدى الاخر.

في (ركن الجواهري) في مقهى سلافيا في براغ.. 

السفير العرافي الدكتور فلاح  عبد الحسن مع مجموعة من المثقفين  العراقيين والچيكيين

 

الجواهري اول وصوله الى براغ عام 1961

علق هنا