لماذا نحب عبد الكريم قاسم، ولماذا تحتفل الأجيال العراقية بثورته الوطنية ؟

بغداد- العراق اليوم:

كتب المحرر السياسي في ( العراق اليوم) :

مثلت ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨، حدثاً عالمياً وعربياً وإقليميا اثر بحسب من درسوا تلك المرحلة وعاشوها على مجريات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة برمتها، اذ انهت الثورة التي قادها بنجاح الزعيم عبد الكريم قاسم الى تغييرات جذرية في موازين القوى، وادخلت في ساحة الصراع لاعباً جديداً لم يكن في الحسبان، وانهت احلافاً ومحاور كانت تخدم مشروع الإستعمار البريطاني تورط بها العهد الملكي.

حررت الثورة الإرادة الشعبية والوطنية، وانتجت معادلتها متغيرا جذرياً، اصبح فيه الشعب العراقي احد محركي السياسات وراسمي القرارات، بعد ان كانت السياسة والاقتصاد حكراً على طبقة برجوازية مقتضبة، الحقت بها طبقة اقطاعية متجبرة.

لسنا في وارد تعداد مزايا الثورة، وذكر مساوئ العهد الملكي، لكننا نقول ان الشعب العراقي كان يرزح تحت نير الاستعمار وتحكم الطبقات التي صنعها، فكان عراق الأمية والفقر المدقع والجهل والأمراض والأوبئة والتبعية، فضلاً عن الاضطهاد الذي كان يمارسه كبار الاقطاعيين ضد فئات الفلاحين الذين كانوا يشكلون غالبية الشعب.

اتت الثورة لتنصف جموع الفقراء والكادحين والمعدمين، وانهت سياسات التمييز الطبقي، بل كان الزعيم عبد الكريم قاسم ابناً باراً للفقراء، انتصر لهم، واقترب منهم بلا تصنع ولا فذلكات ولا بروبغندا صفراء، كان الأمل المخلص والكشاف الذي بدد امامهم دياجير العتمة والظلام.

لم يكن عبد الكريم قاسم يمثل التواضع تمثيلاً درامياً بائساً، إنما كان يعيشه واقعاً ويطبقه بلا تصنع وتكلف، فكان الاقرب لنبض الجماهير، والاكثر تعبيراً عن تطلعاتهم بغدٍ اخر.

كان حب عبد الكريم قاسم للناس حبا صادقا عفوياً، وكان همه الوحيد ان ينهي معاناتهم، ويقطع مأساتهم التي استمرت طويلاً دون ان تجد من يحنو عليهم، ويدافع عنهم، ولم يقتصر الأمر على الحب فقط، بل كان  يترجم كل ذلك الى عمل ومشاريع ليل نهار ، وبات يسابق الزمن لينهض بهذه الطبقات المسحوقة، ويناضل لاجل انصافها ممن ظلمها وغمط حقها.

فكانت سنواته القليلة، سنوات عامرة بالبنيان والنماء والعطاء، فمن مدينة الثورة الى مدينة الشعلة، فاحياء الاسكان ودور نواب الضباط، وغيرها من المجمعات كلها كانت من إنجازه، وحصيلة تفكيره، وطموحاته، ومشاريعه التي لا تنتهي.

لقد كانت سنوات الزعيم قاسم تشهد ثورة في كل شيء، من التعليم الى الصحة الى البنية التحتية والفوقية، فضلاً عن تحسين الواقع المعاشي للفئات الدنيا والمتوسطة، حيث كانت المنح والمكافأت والعطايا تصل الى مستحقيها لأول مرة في تاريخ العراق، والكل يتذكر منحة الراتب ونصف الراتب التي كانت تمنح للجنود والعمال وصغار الموظفين في مناسبات الأعياد والمناسبات، فضلاً عن مجانية التعليم الذي وجد ابناء الفقراء أنفسهم لأول مرة على مقاعد الجامعات يتشاركون مع ابناء الذوات، فضلاً عن برامج التغذية المدرسية واللقاحات والرعاية الصحية التي شملت الجميع دون استثناء.

كل هذه المنجزات فضلاً عن ازدهار الاجواء السياسية التي عرفتها البلاد، رغم شذوذ البعثيين وبعض القوميين عن قاعدة الوحدة الوطنية تنفيذاً لأوامر ومخططات ( خارجية) معروفة..

 وبناء على تلك الأجواء الرحبة التي أشاعها الزعيم قاسم، انطلقت الاتحادات والنقابات والجمعيات الخيرية والتعاونية والادبية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من هذه المؤسسات التي اعطت للمجتمع المحلي زخماً كان مفقوداً لعقود طويلة.

كما نالت المرأة حقوقها من خلال تشريعات وقوانين نظمت شؤونها، ونهضت بواقعها المزري، وانتقلت بها نقلة نوعية، فمن الرعاية الصحية الى الحق بالتعليم الى الضمان الاجتماعي والحق بالعمل وغيرها من الحقوق التي كانت مسلوبة.

وقد كان الانجاز الأكبر في عهد قاسم الجمهوري، هو صدور قانون الأحوال الشخصية ذي الرقم 188 لسنة 1959, والذي لعبت فيه الدكتورة نزيهة الدليمي دوراً كبيراً في تحقيقه من خلال دعواتها المتكررة لتشكيل لجنة وطنية تعمل على وضع لائحة تمثل ذلك القانون الديمقراطي التحرري.

لقد بقي الزعيم عبد الكريم قاسم نموذجاً وطنياً، ومثالاً حياً على شجاعة وقوة وصدق الحاكم العراقي الصميمي، ومثل أيضا المخيال الشعبي الذي كان يمني النفس بحاكم عادل شجاع غيور وطني اصلاحي، فكان الزعيم تمثيلاً لكل هذه الأماني، ففيه اجتمعت افضل الخصال واكمل الفضائل، ومنه تعلمت اجيال تتلو اجيال الزهد في الدنيا، والترفع عن الصغائر، وعلو الهمة ونبل المبتغى، وعظمة المهمة، ولذا ظل العراقيون يحتفون بذكرى ثورة تموز المجيدة جيلاً بعد جيل ، ويوقدون لها شموع الامل ويرفعون اسم قائدها ومفجرها عالياً، فما أحوجنا اليوم الى زعيم مثل هذا الزعيم الوطني النزيه، الحقيقي.

علق هنا