بغداد- العراق اليوم: كتب المحرر السياسي في "العراق اليوم": في الذكرى الثالثة والخمسين لاستشهاد القائد الشيوعي العراقي، الفذ ستار خضير الحيدر، تتجدد الحاجة للسؤال الدائم عن إشكالية عميقة وعنيفة ايضاً في مجمل تاريخنا الاجتماعي العراقي، تلك التي تتعلق بالاغتيال السياسي الذي مارسته السلطة البعثية المجرمة منذ أوائل ايامها في السلطة، وراحت تعده نظرية عمل لتثبيت حكمها الدامي، وتوسلت هذه السلطة بأخس واجبن ما خلق الله، نعني بهم اولئك القتلة الجبناء الذين تحولوا الى مسدسات فاتكة تغتال من يعارض طموحات تلك السلطة الباغية. ستار خضير الحيدر، ابن كحلاء العمارة، الشاب الشيوعي النشط، والرجل الذي يدير حلقات حزبه في بغداد، ويعمل بهمة عالية، كان حائط صد متقدم في مفاوضات صعبة خاضتها السلطة البعثية لاقناع القيادة الشيوعية بالانضمام لجبهة وطنية تقدمية، ارادها البعثيون جسراً للعبور الى دول المعسكر الأشتراكي، وجواز مرور نحو القوى اليسارية العربية والعالمية، لما للحزب الشيوعي العراقي من ثقل، ووزن سياسي في الداخل والخارج، لكي يتسنى لقادة البعث بعدها الانفراد بالحكم، بينما ظن الشيوعيون ان هذه ( الجبهة) قد تكون ايقونة لعمل سياسي، مدني حضاري، قائم على التنافس الوطني الشريف، وتكون أيضاً ميداناً للسباق نحو خدمة الناس، وتبني قضايا المجتمع العادلة. اختلاف النوايا بين الحزبين والخبث المضمر الذي كان في صدور قادة البعث، كان له ثمنه الباهض، أنها دماء وطنية طاهرة جرت في كل مدن العراق، وكان دم الشهيد ستار خضير الحيدر بعضاً منها، حيث عاجله ملثمون يستقلون دراجة نارية في منطقة قناة الجيش عصر الثالث والعشرين من حزيران 1969، بإطلاقات غادرة استقرت في بطنه، ومزقت امعائه، فلم يسقط أبداً، بل صاح بأعلى صوته: أنا ستار خضير الحيدر عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، وهكذا كان صوته مدوياً صادحاً مخيفاً لعصابات القتلة الصداميين. بقي الشهيد الحيدر يعالج اثار هذه الاطلاقات الغادرة في المستشفى، الى ان اسلم الروح في 28 حزيران 1969، ليرحل شهيداً، صادقاً، حراً، وطنياً، شهماً، لم يبلغ من العمر أكثر من اربعين عاماً، لكن سنوات عمره الناصعة والمطرزة بنجوم النضال والشرف، كانت حافلة بمواقف البطولة الباسلة والمميزة جداً، فمنذ وثبة كانون 1948، وصولاً الى مواجهة حملات التنكيل بالحركة الشيوعية على يد النظام الرجعي العميل، وحتى انقلاب شباط الأسود 1963، كانت أرادة هذا الرجل القادم من كحلاء العمارة، أبن العائلة المندائية، المعمٌد بعقيدة شيوعية صافية، والمؤمن حد التوحد بحق الأنسان في عدالة متكافئة، وان يعيش كما يريد، لا كما تريد السلطة الجائرة، أو يشتهي الحاكم. لقد مثل اغتيال الحيدر جريمة سياسية بكل ابعادها، كما مثل بعدها اغتيال الكادر الشيوعي الأخر، محمد الخضري في العام 1970، عنواناً بازراً، صنفه البعض ممن وثقوا تلك الفترة، بأنه البوابة التي فتحت لإنطلاق قطار (الجبهة الوطنية)، إذ يذكر الكثير من اعضاء القيادة الشيوعية الذين عاصروا هذا الحدث وعاشوا تفاصيله، ان (المفاوضين الشيوعيين) ستار خضير الحيدر ومحمد الخضري كانا يضعان امام إبرام الإتفاق مع البعثيين عراقيل منيعة، ويدرجان شروطاً شيوعية تعجيزية على لائحة الإتفاق الجبهوي، لأن الشهيدين كانا يدركان بحسهما الطبقي الاستثنائي، حجم الغدر الذي يتسم به حزب البعث، ويعرفان مدى الخبث الذي يحمله البكر وصدام وبقية أفراد العصابة في صدورهم.. لذا يمكن القول ان تصفية الحيدر أولاً ومن ثم رفيقه الخضري من قبل المجرم ناظم گزار-الذي كان وقتها يمثل يد صدام الإجرامية - قد أزاح العراقيل امام القيادة البعثية، وفتح الطريق امام إبرام الجبهة مع الحزب الشيوعي العراقي في 16 تموز العام 1973 . وللأسف، فقد اكتشفت قيادة الحزب الشيوعي تفاصيل هذا المخطط البعثي الجهنمي متاخراً، وكان هذا الإكتشاف سبباً كافياً لفض تلك الشراكة غير المتكافئة بين الملاك والشيطان. صورة عن نهاية رجل شجاع يذكر بعض من ارخوا لحادثة اغتيال الشهيد الفذ ستار خضير، انه و في مساء يوم 23 حزيران من عام 1969 وفي أثناء عودته من لقاء مع رفاقه في صدر القناة، الى داره في شارع فلسطين ، باغته مسلحان من رجال الأمن التابع للمجرم ناظم گزار، وبأمر مباشر من صدام حسين شخصياً وأحاطاه في بادئ الأمر، ثم حدثت مواجهة بين المجرمين المدججين بالسلاح والعتاد، والشهيد ستار الأعزل من أي سلاح .. وقد إنتهت بإطلاق النار عليه وإصابته في مناطق متعددة من جسمه، أشدها في بطنه، وتركاه هاربين في جانب الطريق ظنــاّ منهما أنه قد فارق الحياة ! وفي تلك اللحظات العصيبة إستجمع الشهيد البطل بعضاً من قواه وقدرته وأخذ يركض خلفهما، فمسك بأحدهما وأطاح به أرضاً، لكن المجرم الآخر أطلق على الشهيد رصاصة أخرى، فسقط ( أبو مي ) مرة ثانية، لكنه لم يستسلم للقتلة، فنهض والدماء تنزف من كل جسده، ممسكاً بأمعائه المتدفقة نحو الارض، موقفاً (باص مصلحة حكومي) كان ماراً في تلك الأمسية الحزيرانية اللاهبة، هاتفاً بإسم الحزب الشيوعي العراقي، في الوقت الذي نزف فيه دماً غزيراً ، مما أثار سكنة المنطقة القريبة من الحادث من العائلات والمارة الذي بادروا الى طلب سيارة أسعاف طبية عاجلة لنقله الى مستشفى الطوارئ في الرصافة . وبالرغم من العمليات الجراحية العديدة التي أجريت له لإنقاذ حياته من قبل الكادر الطبي، وجهودهم الإنسانية الرائعة، إلاً أن شدة الإصابات القاتلة و عمقها في جسده، والنزف الكبير من الدم، لم تسعفه في تجاوز تلك المحنة ، ففارق الحياة في تمام الساعة 7,35 من صباح يوم 28 حزيران 1969 تاركاً بناته الأربع الصغار وزوجته الطيبة الصبورة مع معترك آخر جديد للحياة. الحيدر علامة لنضال طويل مثلت تجربة الحيدر على قصرها، تاريخاً واضحاً، ظلت الحركة الشيوعية في العراق، تفتخر به، كونه مناضلاً من طراز رفيع، وشخصية قيادية، ازعجت تلك السلطات الغاشمة، منذ العهد الملكي المظلم، حتى عهد جمهوريات الخوف التي شيدتها عصابات البعث مرتين في العراق، وبين كل تلك الفترة كان هو يكتب تاريخه، مرةً بعرق جبينه، وعمله الحر، ومرةً بحراكه وحركته المكوكية، ومرةً اخيرة كتبه بدمائه القانية التي طرزت صدر الحزب الشيوعي، بشارة لغدٍ سيأتي مهما طالت العتمة، ومهما استبد الظلام، مما جعل إسمه الناصع، وإسم رفيقه محمد الخضري أغنية على شفاه الشبيبة الشيوعية تتغنى به جيلاً بعد جيل: ستار شدة ورد .. محمد بيابي العين ..
*
اضافة التعليق