بغداد- العراق اليوم: فالح حسون الدراجي افتتاحية جريدة الحقيقة تعرض اليسار في العراق وتشيلي لضربتين عنيفتين متشابهتين في التخطيط والدوافع، وفي القوة والتأثير أيضاً، رغم أن كل بلد من هذين البلدين يقع في قارة تبعد عن الأخرى آلاف الأميال، ورغم الاختلافات الثقافية والاجتماعية والتاريخية بين شعبيهما، إلا أن وجهَي التجربة متشابهان كثيراً. أتحدث هنا عن تجربة الانقلابَين الدمويين اللذين حصلا في بغداد وسانتياغو قبل حوالي نصف قرن .. في العراق حصل العام 1963 انقلاب دموي لم يحصل مثله من قبل في أي بلد عربي، أو إقليمي. وقد خططت المخابرات الأمريكية ( من بعيد) لهذا الانقلاب، مدعومة باسناد شركات النفط البريطانية وحكومات عبد الناصر والكويت والاردن، وقد أطاح هذا الانقلاب الذي نفذه حزب البعث، بالزعيم الوطني عبد الكريم قاسم، حيث سفكت دماء غزيرة فيه، لا يمكن تقدير حجمها، كما هتكت في أحداثه أعراض حرة، وانتهكت أطهر القيم والأعراف العراقية الأصيلة، وذبحت أنبل المبادئ الإنسانية والأخلاقية، حتى تبرأ من عفونته البعثيون أنفسهم، وأسقطت في هذا الانقلاب أوراق التوت التي تسترت بها عورات المتبجحين بشعارات الدين والقومية، ما جعل كل واحد منهم يرمي عار هذه الجريمة على كتف الآخر، بما في ذلك قادة الانقلاب انفسهم. وللتذكير، فقد مهد انقلابيو شباط ببعض الفعاليات، من بينها تحريض وتوجيه سائقي السيارات للتظاهر والتصادم مع السلطات في بغداد، واغلاق الشوارع، ومنع السيارات من الحركة، بذريعة ارتفاع اسعار البنزين، وقد تسوّرت احتجاجات (السواق) واحتمت برجال العصابات البعثية وبنادق (بور سعيد) المصرية، وكانت هذه الإحتجاجات بمثابة البروفة الأخيرة للانقلاب البعثي.. ثم حصل ما حصل بعدها، ليأتي رئيس عصابة البعث علي صالح السعدي ويعلن بلسانه شخصياً: أنهم جاؤوا (بقطار امريكي)! لذلك قتل الانقلابيون صفوة أبناء الشعب العراقي من المناضلين التقدميين، وفي طليعتهم القائد الشيوعي الفذ سلام عادل، كما استشهد معه مضرجين بمجد صمودهم وعراقيتهم الطاهرة، آلاف من المناضلين والمناضلات والأساتذة والعلماء والأدباء والمحامين والفنانين والرياضيين، والكوادر المهنية العراقية المختلفة، حتى سُمّي يوم الثامن من شباط باليوم (الأسود). والشيء نفسه حدث في تشيلي بعد عشر سنوات من انقلاب البعثيين، حيث قامت المخابرات الأمريكية ذاتها، بالتخطيط الاجرامي نفسه لاسقاط حكومة الوحدة الشعبية التي يقودها الزعيم الوطني الماركسي سلفادور اليندي، مستخدمة الاسلوب الوحشي الدموي ذاته، والرغبة ذاتها في القتل والابادة التي استخدمتها في انقلاب شباط الأسود، مع تغييرات بسيطة وضرورية في السيناريو والاخراج.. لقد حصلت في تشيلي احتجاجات وتظاهرات لسائقي الشاحنات أيضاً - أية مصادفة هذه -؟! ولتفتح هذه الاضرابات المجال واسعاً أمام رئيس اركان الجيش الشيلي، ورجل الولايات المتحدة في امريكا اللاتينية، الجنرال (أوغستو بينوشيه)، لينزل بدباباته واسلحته الثقيلة ويسقط بقواته العسكرية، حكومة الوحدة الشعبية، ويقتل الرئيس المنتخب سلفادور اليندي رغم ادعاء الانقلابيين بانتحاره في القصر الجمهوري كي لايستسلم لضباط الانقلاب ! وهكذا، استنسخت امريكا مأساة شباط ذاتها في تشيلي مع اختلاف أدوات التنفيذ .. فالجثث التي كانت تنتشر في شوارع بغداد أيام شباط الاسود، تنتشر مثلها في شوارع سانتياغو إبان انقلاب بينوشيه، وأنين المعتقلين وصراخ ودماء المعتقلات، ذاك الذي ملأ الزنازين والردهات، ناهيك من مدرجات ملعب ساندياغو الدولي التي امتلأت بدماء شباب تشيلي الاحرار - بالمناسبة تحول اسم هذا الملعب في العام 2003 الى ملعب فيكتور جارا- بعد أن كان الانقلابيون قد حولوه الى معتقل للمناضلين التقدميين، وانصار الحزب الشيوعي الشيلي، ومؤيدي حكومة اليندي الشعبية.. ولعل الجريمة الأبرز التي شهدها هذا الملعب، هي تعذيب وقتل المغني والموسيقي الشيلي والعالمي المعروف (فيكتور جارا )، أمام رفاقه ومحبيه في ساحة الملعب المذكور! بعد أن قطع الطغاة أصابعه التي كان يعزف بها لشعب تشيلي وحكومة الوحدة الشعبية، ويطلقوا عليه بعد ذلك ثلاثين رصاصة من بندقية كلاشنكوف، وقد ظهر ذلك حين استخرجت جثته بعد سنوات، وتم تشريحها وفحصها ليجدوا ثلاثين ثقباً في جسده، وقد أدين بعد سنوات عدد من القتلة المشاركين في هذه العملية البشعة، وحكم عليهم بالسجن 18 سنة ! ولعل من المواقف التي أفخر بها شخصياً، مشاركتي في المهرجان الشعري الكبير الذي أقامه الحزب الشيوعي العراقي رسمياً في نادي جمعية التشكيليين العراقيين في بغداد / المنصور، بعد مرور أقل من اسبوع على الإنقلاب المذكور، وقد شارك في ذلك المهرجان خيرة الشعراء الشعبيين التقدميين في العراق، كان من بينهم الشعراء: كاظم اسماعيل الكاطع، وجمعة الحلفي، ورياض النعماني، وكاظم الركابي، وفاضل السعيدي وريسان الخزعلي ونزار القريشي وجبار الكعبي، وكامل الركابي، وعبد الله الرجب وكريم العراقي الذي تميزت قصيدته في المهرجان المذكور بايقاعها الجماهيري، وجرأتها الواضحة، والتي يقول مطلعها : (يا ملعب يادم وطيور .. لعب طيورك فحطنه) وتنتهي بـ ( سديناه شط السيد.. والسيد ما سد شطنه) ! كما شارك عدد من الشعراء التقدميين الذين لا تحضرني للأسف اسماؤهم، وأذكر أن قصيدتي ضمت ثلاث لوحات مهداة لفيكتور جارا ولويس كورفالان، وبابلو نيرودا.. ومن الجدير بالذكر، أن الشاعر الكبير بابلو نيرودا قد توفي بعد الانقلاب الدموي بـ 9 أيام، في ظروف غامضة اتهم بها عملاء الجنرال بينوشيه! واليوم، حيث ينتصر اليسار في تشيلي، ويفوز مرشحه الشاب غابرييل بوريتش، برئاسة الجمهورية، وحيث كان يظن الكثير في العالم، أن اليسار في تشيلي قد انتهى دون رجعة، بسبب ما تعرض له من تدمير شامل في انقلاب الدكتاتور بينوشيه، وما تلى ذلك، إلا أن اليساريين في تشيلي، بل وفي مختلف دول العالم، يعتقدون أن اليسار بما يمتلك من مبررات الوجود، وعوامل البقاء المادية والتاريخية تقف حائلاً أمام فكرة الغائه أو حذفه، بل وتمنع تغييبه منعاً باتاً، وعلى هذا الأساس، نجد أن قوى اليمين لا يمكن أن تطمئن لحالها، وتثق بيقين مستقبلها، مهما كانت قوية ومتمكنة وواثقة، قبل أن تتأكد من زوال قوى اليسار، فمادام هذا (اليسار) موجوداً وحياً ويتنفس هواء الحياة، فلن يغمض لها جفن، ولن يستريح ويهدأ لها خاطر أبداً .. أبدا ! ومن هذه الرؤية، أستطيع الإجابة على السؤال أعلاه وأقول: نعم، سيعود اليسار في العراق قوياً، وسينتصر كما انتصر في تشيلي. فهكذا تفيدنا تجارب الشعوب، وتخبرنا قوانين (الحتمية التاريخية).. لذا أقول وبقناعة راسخة: سينتصر اليسار العراقي رغم التحديات والصعوبات والعراقيل الكبيرة التي يواجهها. أما متى يأتي النصر، فهذا أمر آخر ليس من شأني تعيينه، لكنه سيأتي حتماً !
*
اضافة التعليق