رسالة الى سمير صبيح

بغداد- العراق اليوم:

فالح حسون الدراجي

افتتاحية جريدة الحقيقة

في البدء دعوني أحكي لكم عمّا فعله فينا خبر  رحيل سمير صبيح وتوقيته عليٌ وعلى عائلتي جميعاً..

في الساعة الخامسة من فجر الجمعة 22 تشرين الأول - بتوقيت بغداد - والسابعة من مساء الخميس 21 تشرين الأول - بتوقيت ولاية كاليفورنيا- تلقيت رسالة عبر الواتساب من الصديق (علي عظيم الولاء)، وفي هذه الرسالة ثمة (سطر واحد)، مع صورتين، إحداهما للشاعر سمير صبيح، وهو مسجى على طاولة خشبية مفزعة، والثانية لسيارة ملطخة مقاعدها الأمامية بالدماء .. وفهمت من الرسالة ان سمير صبيح مات في حادث سيارة على طريق كوت - بدرة، أي ما يسمى - بجدارة وامتياز - طريق الموت !

كنا في اللحظة التي تلقيت فيها الخبر - الزلزال - نجلس كلنا حول مائدة العشاء، وبالمناسبة فنحن في العائلة نحرص على تناول وجبة العشاء، لأنها الوجبة الوحيدة التي نجتمع فيها  سوية!

في تلك اللحظة المستحيلة كنت أمام خيارين، اما ان أحتفظ بالخبر، وأسيطر على نفسي دون أي إنفعال أو ردود أفعال من طرفي، لأني أعرف ان ولديٌ حسون وعلاوي يكنان محبة واعتزازاً لأصحابي المقربين، إلاٌ أنهما يحملان حباً خاصاً لبعض هؤلاء الأصحاب، وفي مقدمتهم، صديقي النبيل سمير صبيح، كما أن زوجتي تعرف جيداً مدى حبي ومودتي لأبي علي .. لذلك فهي الأخرى تحترم وتعتز بسمير كثيراً .

 لذا يتوجب عليٌ الصمت في هذا الظرف، والحفاظ على ما تبقى من رباطة جأشي واتزاني وهدوئي الداخلي إن ظل منه شيء!

وبعدها فإن لكل حادث حديث كما يقولون، إذ سأخبرهم حتماً بما جرى لسمير في طريق الموت .. أما الخيار الثاني، فهو الإنفجار المطلق دون انتظار دقيقة واحدة..

في تلك اللحظة الخرافية، وأزاء هذه المحنة والمأزق الذي وضعني فيه - بدون قصد طبعاً- الأخ العزيز (عظيم الولاء)، انتصر الخيار الثاني، وانفجرت بالخبر صارخاً، فسقطت بتلك الصرخة آخر حصون المقاومة والصبر عندي، وانهارت جميع الموانع والاحتياطات التي حاولت ترتيبها منعاً لإفساد الجو العائلي.. بحيث لم تمر أكثر من دقيقتين أو ثلاث، حتى تحول البيت الى مأتم حقيقي: بكاء وعويل وصراخ، لقد كان الجميع يبكي، بما في ذلك إبنتي زهراء، التي لا تعرف سمير صبيح أصلاً ولم تسمع به!

ولا اعرف أين اصبحت المائدة وماذ حلٌ بالعشاء!

إن وفاة شخص - من غير أفراد عائلتك، ومن غير عشيرتك - فيفعل كل هذا الفعل والسحر في نفوس عائلة تقيم على بعد عشرات الآلاف من الأميال عن العراق، وتفعل ذات الأمر في نفوس عائلتي الكبيرة في العراق، لهو شخص كريم ونبيل وطيب تجتمع فيه كل الخصال الحميدة حتماً، وهو إذاً يستحق أن ينال حياةً جميلة هانئة معطرة بالجمال والبهجة والإبداع، ولا يستحق هذا العقاب الظالم من الأقدار، بعد أن رمت به في طريق لم يعمره الفاسدون رغم ارتواء ترابه حتى الثمالة، بالدم العراقي البريء طيلة سنوات (الحرية والإزدهار)،وسنوات القمع والاضطهاد!

ولأن أبا علي يستحق دموعي ودموع عائلتي، ولأنه يتوفر على كل الخصائص الإنسانية والوطنية والجمالية، والابداعية.. بحيث لم يترك في قلوب الناس موضعاً يتيح لأحد منهم الفرصة في أن يأخذ موقفاً (محايداً) من موته، ولا أقول مؤيداً، لأن شخصاً عذباً جميلاً مثل سمير صبيح غير قابل موته للشماتة مطلقاً.

لذلك بكته محافظات العراق، وليس أشخاصاً أو جماعات فقط، كما نعته قيادات الدولة العليا بكل مساحاتها المختلفة..

ألا يكفي أن تكون رمزية السيد السيستاني حاضرة بين مشيعي جثمانه الطاهر، ممثلة بحضور نجل دريئة الاسلام، وسور الوحدة الوطنية العالي، نجل السيستاني ؟

هل رأيتم إجماعاً على تذوق طعم المرارة، والشعور بالأسى الجمعي لدى عشرات الملايين من العراقيين، لرحيل شاعر عراقي من قبل، كما حدث في رحيل سمير صبيح، خاصة وإن البعض من العراقيين - وأقول بعض - لا يثق بمنهجية الشعراء، ولا يطمئن لمزاجهم، ولا لتقلبات البعض منهم، وطبعاً فإن لهؤلاء اسباباً عديدة، منها من يصٌر حتى هذه اللحظة على أن (الشعراء يتبعهم الغاوون) رغم أن إبن آية الأسلام قد مشى خلف جثمان الشاعر سمير صبيح في النجف الأشرف !

أعود لذات السؤال، واعرضه على سمير صبيح نفسه وأقول له: لماذا تنال يا أبا علي برأيك ما لم ينله غيرك من الشعراء الراحلين- فصيحاً وعاميةً -؟

والجواب الذي لم ولن تقوله انت تواضعاً، واحتراماً، يتجمع عندي في هذه اللحظة من خلال ألف سبب مرصع بجمالية شخصك، ولا يتعلق أبداً بأسباب تخص الشعراء الآخرين الذين صاحبت بعضهم اللعنات حتى وهم يرقدون في قبورهم !

سأتحدث بمثال واحد من بين الألف مثال، وهو كاف برأيي للتعبير عن قيمك واخلاقك ومواصفاتك السامية يا أبا علي، فالمجال لا يسع حتماً للحديث عن سمير الشاعر الوطني، والمدافع عن إسم وهوية الحشد الشعبي، ولا عن تأثيرك الكبير في ساحة الشعراء الشباب: لذا اسمح لي يا صديقي أن أتحدث للناس عن المثال الذي أكتفي به:

اتصل بي سمير قبل فترة عبر تلفون أخي العزيز علي فاخر الدراجي، وهو يقول لي:

خويه أبو حسون آني هسه بناحية كميت، وتذكرتك- ثم انتفض وقال مصححاً (لا شنو تذكرتك، ليش آني ناسيك،حتى أتذكرك هسه، إنما قصدي مرينه على مسقط راسك بكميت وشميت ريحتك وعطرك بتراب المدينة الزكي، فقلت لازم اسلم عليك حتى لو انت نايم الان)!

ثم خابرني سمير في يوم آخر قائلاً:

(عندي سالفة بيها ملوحة لحبيبي أبو حسون، بس ارجو الحفاظ على سرية الاسماء بداعة حسون وعلاوي.. )!

ويواصل سمير حديثه لي:

 ( أكو شاعر نمٌام بعث لي فيديو لشاعر كبير كنت قد اختلفت معه قبل رحيله - وفيه يظهر الشاعر الكبير  بقصيدة يمتدح فيها الدكتاتور صدام)!

فقلت له- والكلام لم يزل لسمير- ( لماذا ترسله لي، وليس لغيري يا هذا، هل لتتقرب مني تزلفاً، أم أنك تعتقد بأني سأشكرك على هذا العمل الدنيء، على اعتبار أني كنت مختلفاً ومختصماً مع الشاعر صاحب القصيدة..

لقد توفي الشاعر الكبير، ولا يمكن أن نتعرض لميت شرعاً ولا قيماً ولا أخلاقاً، فأنا أصلاً كنت قد اختلفت مع شاعر الفيديو لأنه شتم شاعراً كبيراً بعد وفاته، واعترضت على ذلك الفعل، فهل تريدني اليوم أن اكرر خطأ الشاعر الكبير، واحتفل معك بقصيدة (سيئة) لشاعر عراقي ملأ الدنيا بروائع شعره، خاصة وإنه قد غادر الحياة منذ فترة.. يا للعار )!

حين سمعت ذلك من سمير، وأنا اعرف ويعرف الجميع ان أبا علي مستعد أن يموت ألف مرة ولا يكذب مرة واحدة، فشكرته على هذا الموقف النبيل بحق واحد من كبار القصيدة الشعبية العراقية وحييت فيه جميل ما فعل.

إذاً، هذا هو سمير صبيح ..

علق هنا