بغداد- العراق اليوم: بإعلانها الأولي عن نتائج الاقتراع في عموم محافظات العراق، بنسبة تصويت بلغت 41% من مجموع الناخبين المسجلين، وبحالة القبول والرضا التي يسجلها الشارع العراقي والقوى السياسية، تكون العملية الانتخابية تجاوزت مرحلة الخطر، وبدأت الأمور تأخذ مسارها الحقيقي في قبول نتائج الصناديق دون اعتراضات قائمة على خروقات بنيوية في أصل العملية. الكاظمي الذي نجحَ بفريق صغير جداً ومحدود، مؤلف من بضعة رجال يثق بهم، من بينهم مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي والوزير عثمان الغانمي والفريق احمد ابو رغيف والفريق أول عبد الأمير الشمري، وايضاً ثمة رجال في اجهزة الدولة المختصة، أستطاع ان يخلص البلاد من أزمة خانقة، وأن ينجح بمن معه في تفكيك المشكلة برؤية سلسة، وأن يُقنع الشارع ان طريق الاحتجاج والرفض يمكن ان يمر عبر عملية سلمية هادئة، فيحقق الشارع هدفه بإزاحة من يعتقده السبب في الفشل والفساد واستشراء ظاهرة الإهمال وتعاظم نفوذ الخارج، وتراجع الدولة، خاصة وان العنف ليس حلاً، والصِدام مع الدولة لن يغير من الواقع شيئاً، اذا ما استمرت بعض القوى تتكئ على شرعيات سابقة. لقد اتاح الكاظمي المجال للتنافس الحر والشفاف في أن يأخذ مداه بالتعبير عن ذاته، وقد أحترمَ الرجل تعهداته، ولم ينحز لطرف، كما لم يوظف يوماً إعلام الدولة وامكاناتها للترويج لنفسه أو لكتلة يتبناها كما فعل اغلب من سبقوه، حتى أنه لم يطلب من صحيفة الصباح الحكومية مثلاً، او قناة العراقية، الرد على الهجمات الاعلامية المنظمة التي كانت ولم تزل تستهدفه، إنما بقي متوازناً، رابط الجأش، مركزاً في مشروعه المدني لتخليص العراق من لحظة الارتطام الساخنة، وتحويلها الى قوى ناعمة، وأدوات تعبيرية عصرية، دفعت الناس زرافات ووحداناً في العاشر من تشرين الأول الى صناديق الاقتراع لتقول كلمتها، رغم حملات التثبيط والمقاطعة التي قادتها قوى سياسية واعلامية. يقيناً لم يكن موقف المقاطعة الذي تبنته بعض القوى السياسية كالحزب الشيوعي، موجهاً ضد الكاظمي او حكومته، بل كان موقفاً ضد منظومة قارة ومستقرة منذ عقدين، وضد منهج يأبى الإصلاح والعدالة، ويرفض الاستجابة لتحديثات باتت ضرورية لأقناع ملايين الشباب والطبقة الوسطى من أجل كسبهم في رفد وتدعيم شرعية النظام السياسي التي تأكلت بفعل سنوات الاحتراب الطويلة، وأيضاً تغول حيتان الفساد والنهب والتخريب والقوى المضادة التي استعادت السطوة بفعل أدوات التمكين التي استخدمتها ( المال – الرشى – الدعم الخارجي – القدرة على الاختراق وغيرها). وخلال عام ونصف العام، لم يتوقف الكاظمي عن اطلاق برامج تنموية، ووضع خطوات هامة في كل ملف ساخن، بل انزل الكثير من تلك الملفات المجمدة ليضعها على الطاولة، فواجه مشكلة (النقد والصرف) بشجاعة ولم يخف، كما واجه ظاهرة السلاح خارج الاطار الشرعي، ثم مضى ليفتح ملف التطاحن ( الامريكي – الايراني – السعودي) على أرض العراق، وحقق نتائج ملموسة بشهادة هذه الأطراف مجتمعة. وفتحَ الكاظمي ملف الطاقة الملتهب، ولم يتردد في تشخيص مواطن الخلل، رغم معرفته المسبقة بردود الافعال الشعبية والاعلامية، ولم يذهب باتجاه تعويم المشكلة، ومحاولة شراء الوقت، فقال ما لم يسمعهُ العراقيون من قبل بشأن الفساد الذي نهب موارد هذا القطاع، بل وذهب لضرب شبكته التي تعمل من قلب القطاع ولا يزال يواصل التحرك في هذا المجال رغم ان مؤسسة الكهرباء منخورة من رأسها حتى أخمص قدميها بالفساد. عام ونصف لم ينم فيها الكاظمي كما ينام الناس، بقي يلاحق كل تفاصيل ملف أمني استقر وتصاعد نسغ انجازاته الى هذه اللحظة التي اعلن فيها اعتقال نائب المقبور البغدادي في عملية نوعية معقدة خارج الحدود. عام ونصف في الحكم، وهذا الرجل المثقف، البغدادي المتزنُ، القادم من عائلة وسطى، ووسط ثقافي منفتح، يريد ان يترك بصماته الناعمة على وجه مشهد خشن وصعب التضاريس، ويريد ان يلوي فوهات البنادق، ويصوغ قلائد لأجياد فتيات، يجب ان يتوقف كابوس الفقد واليتم والترمل عن ملاحقة احلامهن الغضة. لسنا في وارد ان الترويج له، فهو لا يحتاج لهذا، لكننا نقول علينا كعراقيين خضنا امس تجربة ناجحة، ولا تزال نتائجها تواصل تحقيق المفاجأت ان نعيد النظر في خياراتنا، وأن نبحث عن عناصر مدنية كفوءة تكره لغة الدم، وتنحاز للغة الحوار والتفاهم وتمتلك العقلية المتحررة من عقد التاريخ، او المصابة بنرجسية الجغرافيا، فالعالم لم يعد يتسع للمزيد من هولاء المرضى في قيادة بلدان مثل العراق، بل يبحث عن رجل بمواصفات (الثقافة والمدنية والالتزام الصارم بالمواثيق، والمقبولية الواسعة من الداخل والخارج بشكل يمكن معه ان يمثل مصالح بلاده خير تمثيل). نعتقد أن الفرصة مؤاتية لحدوث هذا، وأن لا نذهب باتجاه خيارات راديكالية اخرى تذهب بما صنعناه خلال عام ونصف ادراج الرياح، لاسيما في ملفات السياسة الخارجية والطاقة والخدمات التي وضع الكاظمي وفريقه اجندة عمل ممتازة للشروع بأغلبها، ولا نريد ان "تُفرمل" بأي حال من الاحوال.
*
اضافة التعليق