بغداد- العراق اليوم: أسدل الستار على حياة حافلة هذا اليوم، ومات سعدي يوسف الشاعر والهجاء، والرجل الذي قال ما لم يقله غيره علناً في تاريخ الشعر العربي الطويل. مات الرجل الذي مثل حضوره الشعري فتحاً في تاريخ القصيدة الحديثة، ومثلت انتكاسته الأخيرة شعرياً وانسانياً، مثالًا سيئًا لانفجار كوامن الإنسان المتداعي، حين تنال منه لوثة العصوبيات البدائية، وتختزن ذاته، قيماً اقل مما يدعيه في ما يكتبهُ شعرياً. مات الشاعر الذي سمى نفسه الشيوعي الأخير، وسخر قريحته، وعدته اللغوية الواسعة، ليهجو كل شيء، ورائده الطائفية، ولغته شتم من لا يتفق معه، مات الأخضر بن يوسف، كما سمى نفسه ذات يوم، ولكن قبل ذلك، انزل من علياء شعره، شيرازه، وأدمى قلوب محبيه، وأسقط حجج المدافعين عنه وعن شاعريته الفذة، بما كتبته من نتفات بسيطة، قبيحة المعاني وركيكة المباني، ولسنا هنا في معرض هجاء رجل راحل، بل في معرض التساؤل المخلوط بالأسى، لهذه النهاية المفجعة، وهذا الرحيل الشاحب الذي لا يليق بقامة شعرية باسقة تماثل سعدي يوسف الذي عرفناه بكل الشعرية الفذة المتفتقة، التي طبعت على جدار الشعرية العربية والعالمية، حضورها بقوة المعاني، وجمال الأسلوب وفرادة الفكرة، وعظمة الاتساع، واستثنائية الموهبة. سؤال عن مآل المثقف العراقي، الذي تحوله السياسة من قارب لأخر، ويدور مع اتجاهاتها البسيطة البدائية، دون أن يكون ثابتاً مخلصاً لمنهجه الفكري والعقدي الذي بدأه، حتى وان امتاز عنه، وعرضه للنقد الذي هو أثر التجدد، ولغة التمرد، ومبنى من مباني الحداثة. موت سعدي هذا اليوم، يذكرنا بذلك التواري الشاحب لبدر شاكر السياب الذي كان اقل منه كشفًا عن "عورات" وركاكة القيمة الفكرية التي حملها، وهذه مناسبة جيدة لنسأل ونساءل الواقع الذي يدفع بقامة مثل سعدي الى أن ينتهي طائفياً بهذه الدرجة التي لو كنت قد عرضتها عليه في ستينات القرن الماضي، لأنكرها على ذاته. لماذا لم يتوقف سعدي عند ما انجزته شعريته الباهرة، ولماذا لم يبق وفياً لشيوعيته الطاهرة التي اعتنقاها منهجاً للحياة، ومبدأ للكتابة، وفضاءً واسعاً للفكر، لماذا لم يخلص لهذا البهاء الأممي الذي يسمو فوق العصوبيات البدائية، ويتجاوز عقدة الأخر المختلف على أسس لا واعية، لماذا انحدر وعي الشيوعي الكوني، الى مجرد " مهرج" طائفي، لا يسمع صوته أحد، وظل يدمر بكل ما أوتي من قوة بلاغية ما تبقى من صورته التي صنعها بمجد الشعر وبهاء الثقافة، ونصاعة الجمال. لماذا يرحل سعدي يوسف وهو يفتقد دفء النعي الذي كان سيكون مدوياً، لو أنه فصل مساحات المخبوء في الذات، وما اقترب من مساحات مثيرة مثل تلك الي وصلها في هجائه بشكل مثير، على أساس طائفي بغيض، يكرهه الناس، ويمقتونه من أي جهة. ماذا لو مات سعدي يوسف شيوعياً كما بدأ، وكما نتمنى له، وكيف سيكون حضور خبر نعيه على العالم العربي والشعري، ماذا لو انتهى كما انتهى بابلو نيرودا، أو ناظم حكمت، أو لويس اراغون أو غيرهم من شعراء اليسار الذي ظلوا علامات فارقة في حياة الشعر والانسان والتاريخ. لماذا صنعت بنفسك يا سعدي ما صنعت، وحطمت تلك الصورة البهية، ولم توفر لمريديك على الأقل ما يدافعون به عنك وعن شعريتك، وعبقريتك الآفلة، التي لو بقيت عليها لاستحققت نوبل للآداب، لماذا صنعت بنفسك كل هذا يا أيها الأخضر، الذي شحب، وشحب حتى مات بلا لون!.
*
اضافة التعليق