بغداد- العراق اليوم:
افتتاحية جريدة الحقيقة
فالح حسون الدراجي
سألني أحد الأصدقاء عن السبب الذي منعني من الكتابة عن مأساة فاجعة الكوت، فأخبرته بالظروف ( الخاصة ) التي مررت بها خلال هذه الفترة، لكني وعدته بأن أكتب مقالة عن فاجعة الحريق القادم حتماً ..! قال مستغرباً: عن أي حريق تتحدث، ومتى يحدث لا سمح الله ؟! قلت له: لا أعرف أين ومتى، فأنا لست عالماً بالغيب، ولا عرافاً، او متنبئاً، فينبئك بالمستقبل، إنما أنا مجرد قارئ ومتابع للتاريخ، وقد وجدت للأسف أن بلادنا بما فيها من شعب ودولة وتاريخ ودستور ، وقوانين، وعناصر حية أخرى، لا تتعظ مما حدث لها، ولا تتعلم وتستفيد من الدروس والعبر، فتنتهي عن السوء وتتوقف عند آخر مصائبه ! وأجزم أن الكثير من الناس يدركون مثلي، أن حريقاً أو اكثر سيندلع دون شك، ولمَ لا، وأسباب الحريق الأول ذاتها تتكرر في الحريق الثاني وفي الحريق الثالث، والعاشر والعشرين والألف دون أية معالجة أو اجتثاث لهذه الأسباب المتكررة .. ثم أكملت حديثي بسؤال قلت فيه : هل تصدق مثلاً لو قلت إن 55 ألف حريق - حسب الإحصائيات المعلنة - قد نشب في العراق خلال ثلاث سنوات فقط، وإن ملفات هذه الحرائق جميعاً قد أغلقت بـ"قضاء وقدر " !!.. فلماذا إذاً تستغرب لو قلت لك إن غداً او بعد غد أو ربما بعد شهر أو شهرين سينشب حريق آخر وآخر .. إلى ما لا نهاية ! قاطعني صديقي قائلاً: وهل تتوقع أن ينتهي التحقيق في فاجعة الكوت بعبارة: ( قضاء وقدر) أيضاً ؟!! قلت له: أعتقد ذلك ، ولا أظن أن شيئاً آخر مختلفاً سيحصل، إذا كان 55 ألف حريق قد انتهى من قبل بعبارة :( قضاء وقدر ) ؟! قال صديقي مستفهماً: ما معنى ( القضاء والقدر)؟ قلت: يعني في العقيدة الإسلامية، أن كل ما يقع في هذا الكون، سواء كان خيراً أو شراً، كتبه الله وقدره في الأزل، ووجده على ما قدره. قال : وهل هذا يعني ان الله كتب علينا هذه الحرائق ؟! قلت له : عذراً، أنا لا أناقش مصطلح (القضاء والقدر) من الناحية الشرعية، لأني لست من أهل الإختصاص، على الرغم من إيماني التام بأن الله ( الجميل )، الذي خلق لنا كل هذا الجمال، و شيد كل هذا الكون الباهر، بريء من هذه الحرائق المدمرة.. ولكن قبل هذا وذاك، يجب ان تسأل عن مدى صحة اتهام (القضاء والقدر) بهذه الحرائق، وهل أن يد القضاء والقدر أشعلتها فعلاً (كما يكتب المحققون في قرار القضية وخاتمة التحقيق)؟.. قال صديقي: وهل تتهم أحداً غير القضاء والقدر ؟ قلت: لا أعرف، فأنا لست قاضياً، لكن عقلي يقول إن هناك أيادي أخرى - غير يد القضاء والقدر- قد أشعلت هذا الحريق - بمعنى انه تم بفعل جنائي - وقد حصل بداعي التخريب او الانتقام الشخصي، أو إلحاق الضرر بالجهاز الحكومي المحلي أو حتى المركزي ربما.. وقد يكون أيضاً بسبب الإهمال واللامبالاة ..! لكن صديقي طرح أمراً مهماً قال فيه: أظنك غير مقتنع بأحكام المحققين وقراراتهم بهذه الحرائق؟ قلت: طبعاً أنا غير مقتنع.. إذ كيف لي أن أصدق أن المسكين ( قضاء وقدر ) قد تسبب لوحده بـ 55 ألف حريق في العراق، بينما لم يتسبب البشر بحريق واحد منها حتى ؟! وأكملت : أنا لا انكر أن أسباب القضاء والقدر في إشعال الحرائق كثيرة، بعضها ( طبيعية ) تحدث رغماً عن البشر، كالبرق والصواعق التي تتسبب في إشعال الحرائق، خاصة في المناطق الجافة والغابات.. وهناك الظواهر الجوية التي تكون سبباً في اندلاع الحرائق أيضاً، مثل ارتفاع درجة الحرارة، وانخفاض الرطوبة، والرياح القوية، فهذه كلها عوامل ( قدرية) تزيد من انتشار الحرائق.. ولكن رغم ان هذه الحرائق ( قدرية ) كما قلت، لكنها لا تخلو من تدخل العنصر البشري في اندلاعها احياناً، كحرائق الغابات التي يمكن أن تبدأ بسبب الظواهر الطبيعية أو بسبب الإهمال البشري أيضاً، مثل إلقاء أعقاب سجائر في الغابة. وثمة حرائق (قدرية) أخرى متعلقة بحوادث المرور وحرائق المصانع، التي تحدث أحياناً نتيجة تسرب المواد الكيميائية، أو بسبب الأعطال الميكانيكية او تلك المتعلقة بالزلازل والبراكين التي تتسبب في تحطيم خطوط الكهرباء، وبعث مواد قابلة للاشتعال، نعم، يمكن إدراج هذه الأسباب في خانة ( القضاء والقدر).. ولكن، هل أن حريق الكوت حدث بسبب شرار البرق او الصواعق مثلاً، أو نتيجة لزلزال أو بركان هائل تعرض له (هايبر ماركت)، ونحن لا نعرف بذلك ؟! لكن صديقي لم يستطع مواصلة الحوار بنفس هذه الطريقة، فانتفض قائلاً: وما العمل برأيك..من المسؤول عن هذه الكوارث، وكيف نوقف هذا الخراب الكبير ، المتواصل ونعالجه، كيف؟ قلت: عندما نصل بالأدلة القاطعة إلى المسؤول الفعلي عن هذه (الجريمة) ولمساعديه وحماته أيضاً، ومحاسبتهم حساباً عسيراً يليق بحجم الخسارة وعدد الضحايا، وإصدار القرار العادل بحقّ الجاني، أو المتسبب بهذه الفاجعة مهما كان نفوذه وسلطانه ! وقتها سنستطيع معالجة المشكلة علاجاً شافياً وجذرياً، أما أن نتهم ( الصغير )، ونترك الفاعل الكبير ، فهذا قطعاً لن يشفي جرحاً ولا يطفئ ناراً ، بل ولا يحل المشكلة أبداً .. قال صديقي: وأنت، ألا تتهم أحداً معيناً بارتكاب جريمة (حريق الكوت) ؟! قلت له: لا أتهم أحداً قط، لأني لست قاضياً ولا جلاداً، فأتهم هذا أو أبرئ ذاك، إنما أنا مواطن موجوع جداً ومفجوع بهذا المصاب، ولا أريد غير الحق والقصاص العادل..علماً بأني أملك من الشجاعة ما يجعلني أتهم نفسي قبل غيري باعتباري إعلامياً كان عليه أن يلعب دوراً أكبر في فضح الذين تسببوا بهذه الحرائق سابقاً، فضلاً عن ايجاد وطرح الحلول والمعالجات لهذه المشكلة المتواصلة .. كما أحمّل كل الحكومات العراقية المتعاقبة دون استثناء مسؤولية التقصير، وأحمّل أيضاً مجلس النواب، والناخب العراقي الذي يعطي صوته لمن لا يستحقه، فيضع مسؤولين فاسدين على كراسي السلطة في الحكومة والبرلمان دون حق !! نعم، أنا أحمّل ( الشعب ) ، والقضاء والتعليم والإعلام. وهنا يجب أن نعترف كلنا بالمسؤولية، وأن نتحمل أوزارها بشجاعة وصراحة.. وقبل ذلك علينا أن نُبرّئ ساحة (القضاء والقدر) من الحرائق التي علقها بذمته المحققون السابقون واللاحقون، بدءاً من كارثة حريق مستشفى ابن الخطيب في بغداد العام 2021، وسقوط 92 ضحية وأكثر من 110 جرحى مروراً بحريق قسم عزل كورونا بمستشفى الحسيني في مدينة الناصرية العام 2021، ومقتل ما بين 60 إلى 92 شخصاً، وإصابة عدد كبير، وكذلك حريق قاعة الزفاف في قضاء الحمدانية العام 2023، وحصد 100 ضحية ومئات الجرحى.. وحريق مصنع الكبريت (المشراق) في قضاء القيارة جنوبي الموصل العام 2023، حيث استمر احتراق المصنع لثلاثة أسابيع.. وليس انتهاءً بحريق الكوت وضحاياه وخسائره الفادحة التي لم تنقطع حتى الآن .. قال صديقي مختتماً كلامه: وأنت ماذا ستفعل اليوم ؟! قلت: سأُحضر - من الآن - مقالة عن الحريق القادم الذي لن يكون مختلفاً عن الحرائق العراقية السابقة، سوى بالاسم.. أما الفاعل فهو (القضاء والقدر) طبعاً!
*
اضافة التعليق