الموت يغيًب (صندوق أسرار) حسني مبارك، والرجل الذي أشرف على ( تجنيد ) سعاد حسني لصالح المخابرات المصرية

متابعة - العراق اليوم:

تخلّص الرئيس المصري الراحل حسني مبارك تباعًا من كل رجاله، لدواعٍ مختلفة، باستثناء رجل صعد السلم السياسي معه، وكتب السطر الأول في حكمه، حتى كتبت ثورة يناير آخر سطر في حياة الرجلين معًا، وانتهيا إلى السجن والإدانة.

محمد صفوت الشريف (1933-2021)، هو ضابط المخابرات السابق ورئيس الهيئة المصرية العامة للاستعلامات، ووزير الإعلام لعقدين، ورئيس مجلس الشورى، وأمين عام الحزب الوطني الحاكم. بدأ حياته السياسية، باحتمالية السجن في قضية "انحرافات المخابرات" عقب نكسة يونيو، وأنهاها أيضًا بالسجن عقب ثورة يناير، مُدانًا بكسب غير مشروع يقدر بملايين الجنيهات.

من سجن ما بعد النكسة، إلى سجن ما بعد الثورة، عاش الرجل قرابة ستين عامًا ملء السمع والبصر. ولعله من بين رجال مبارك كلهم، هو الشخصية الأكثر دراماتيكية، والأشد غموضًا.

ولأنه مات، يوم أمس، محتفظًا بصندوق أسراره، فإن كل ما يُقال عنه يظل في إطار روايات صحفية أو على لسان شخصيات تقاطعت مع مسيرته الطويلة في السلطة.

رواية شبه رسمية

بدأت حكاية الشريف باسمه الحركي "موافي" ضابط مخابرات تحت رئاسة صلاح نصر. وبسبب النكسة، وتخلّص عبد الناصر من جناح عبد الحكيم عامر في السلطة، أقيمت محاكمة لصلاح نصر وبعض رجاله، ومنهم "موافي" الذي جرى التحقيق معه آذار/ مارس عام 1968 ثم أحيل آنذاك للتقاعد في سن الخامسة والثلاثين، قبل أن يستعين به السادات- بعد نحو عشر سنوات- أثناء بناء سلطته السياسية، مستثمرًا كل الكوادر الناقمة على سلفه.

ضمن ما يسمى "محكمة الثورة"، تم التحقيق في نشاط قسم مندوبي الجهاز المعروفين باسم "المجموعة 98" وكان من مهامه السيطرة "الكنترول" عن طريق استعمال النساء والفتيات، لكنه بحسب النيابة خرج عن مساره، وتحول إلى عمليات غير واضحة، وبلا قيمة.

كانت عمليات التسجيل تتم في مواقع متنوعة منها عيادة د. عبد الحميد الطويل زوج الفنانة مريم فخر الدين وكذلك في منازل المطرب "ف. أ" والممثلة "ن.ل" و"م.ي".

عندما سئل "موافي" عن معنى الكنترول أجاب أمام النيابة: "يقصد بها الحصول على صور أو أفلام تثبت وجود علاقة جنسية مشينة للشخص المطلوب السيطرة عليه حتى يمكن استغلال هذا الأمر".

وأشار إلى أن فكرة توظيف العنصر النسائي اقترحها رئيسه المباشر حسن عليش، لتجنيد الأجانب والدبلوماسيين.

تولى "موافي" ترشيح المندوبات واستئجار شقتين في شارع الميرغني في مصر الجديدة، كان توضع في إحداهما أجهزة التسجيل والتصوير. ومن بعدها تم استئجار أماكن عدة منها الإسكندرية. والطريف أن أول امرأة تم تصويرها كانت مدرسة روسية تعيش في مصر اسمها جينا، شارك "موافي" في تصويرها مع عشيقها، لكن لم تتحقق أي ثمرة من العملية لأن السيدة غادرت إلى وطنها بعد شهر فقط.

سعاد... والأرشيف السرّي

آنذاك نشط الشريف (موافي) في عمليات التسجيل تلك، وحفظها في أرشيف سري، مع تحديد اسم المندوب، واسم الشخصية المعمول عليها الكنترول، والهدف من العملية.

في هذا السياق جند سعاد حسني في أكتوبر أو نوفمبر سنة 1963 بطلب من رئيسه المباشر، في ظل التوسع لتجنيد سيدات من الوسط الفني.

وقالت الممثلة "ل.م" إنها تستطيع أن تجند سعاد مقابل 300 جنيه، مشيرة إلى أنها تفضل الاتصال بالأجانب والعرب وليس بالمصريين. لذلك تم توظيف "مندوب" يجيد الفرنسية بطلاقة، زعم أمامها بأنه فرنسي. واللافت أن صلاح نصر نفسه حرص على حضور عملية "الكنترول" تلك. وأثناءها أصدر أمرًا بالقبض على سعاد، بتهمة إقامة علاقة مع "جاسوس فرنسي"!

بعد التحقيق "الصوري"، عُرض عليها الفيلم الذي تم تصويره، فأُصيبت بانهيار، ووافقت على تنفيذ عمليات لمصلحة الجهاز، مقابل "ستر فضيحتها". أما أطرف ما في القصة، فهي أن مندوبي الجهاز استردوا منها مبلغ ال 300 جنيه، بعد توصيلها إلى منزلها، وهي لا تستوعب ما حدث.

عقب "نجاح عملية الكنترول" تم صرف مكافأة قيمتها خمسون جنيهًا لكل من شارك فيها، وحصل شريكها "الفرنسي" المزيف على مائتي جنيه.

ثمة إشارة مهمة حسب التحقيقات المنسوبة على لسان "موافي"، بعدم الرغبة في تجنيدها تحت تهديد الخوف والفضح، لذلك ذهب أحدهم إليها لتهدئة نفسيتها، وأهداها ساعة يد وراديو ترانزستور.

مدة تجنيد سعاد تظل مبهمة، وكذلك عدد الأفلام التي صورت لها، أو الأشخاص الذين استدرجوا عن طريقها. وبحسب الأقوال المنسوبة إلى صفوت الشريف، لم يستمر الأمر سوى بضعة أشهر، وبسبب ما تردد على لسانها بأنها على اتصال بالمخابرات، تم إيقاف التعاون معها. آنذاك ترددت شائعة عن علاقة تربطها برئيس الجهاز صلاح نصر.

عندما سئل "موافي" عن الفائدة من تجنيدها إذا لم تقم بأية عملية، وإذا ما كان الأمر مجرد هدف شخصي لرئيس الجهاز، قال إنه كان منفذًا للتعليمات فقط!

رواية اعتماد خورشيد

ما حدث مع سعاد، تكرر مع فنانات أخريات، مثل الممثلة "ش.م" وجندتها مندوبة تدعى "ريري"، ومحاولات مع "ب.ع"، وكذلك السيدة اعتماد خورشيد الوحيدة التي أصدرت كتابًا كاملًا، يوثق روايتها.

صدر كتاب خورشيد "شاهدة على انحرافات صلاح نصر" عام 1988، وأحدث هزة كبرى، مع تحفظ القوميين والناصريين، لشعورهم أنه تشويه متعمد لحقبة عبد الناصر، خصوصًا أنها استعانت في مقدمته بمقال للكاتب الصحافي مصطفى أمين، أحد خصوم نظام عبد الناصر، والذي قضى فترة في سجونه، حيث ختم أمين مقاله بأن "هذا الملف العجيب ممكن أن يخرج منه عشرة أفلام".

في كتابها أشارت خورشيد إلى قربها من صلاح نصر، لأربع سنوات، موضحة كيف سيطر على الناس بتسجيل همساتهم. وكيف ذهبت إلى الزعيم عبد الناصر، عقب النكسة، وفضحت ما كان يُدار من وراء ظهره! وروت تفاصيل تعرفها على صلاح نصر، وكيفية تجنيد عشرات السيدات والفتيات، وليس من الوسط الفني فقط.

وهي أدلت أيضاً بأقوالها أمام المحكمة حيث اتهمت نصر بأنه تزوج بها، بالباطل، رغم أنها كانت على ذمة رجل آخر. وأشارت إلى أن تجنيدها تم عن طريق الكاتبة الصحفية "س.ق" (اشتهرت لاحقًا بكتابة أعمال إسلامية).

وألمحت إلى تجنيد فنانات كثيرات بالحروف الأولى، وعلى رأسهن سعاد حسني في أكثر من إشارة سلبية منها أنها كانت تهوى ممارسة الفجور "بكل أشكاله"، ثم عادت وتطرقت إلى "واقعة اغتصابها" وغالبًا قصدت الإشارة إلى "حيلة الجاسوس الفرنسي" وضبطها متلبسة.

وإذا كانت الرواية شبه الرسمية لا تشير إلى أي دور لافت لسعاد، إلا أن سطور خورشيد توحي بغير ذلك، وتتهمها بأنها كانت تتلقى راتبًا ثابتًا، وعملت في "مجال السياسة العربية" لأنها كانت مرغوبة عربيًا.

وأضافت خورشيد بهارات لا تتوفر للرواية شبه الرسمية، مثل قيام طبيب يهودي يدعى "ليفي لينز" بإجهاض العميلات في عيادته في شارع سليمان باشا.

خدمات متبادلة

إذا كان بعض أفراد الأمن لجأوا إلى تجنيد حسناوات السينما لتقديم "خدمات" سرية، فإن السينما عادت لتوظيف قصص التجاوزات الأمنية، في أفلام كثيرة، كان من الواضح أن نظام السادات ينتقم من خلالها من نظام سلفه، ومن أشهرها "الكرنك" إنتاج 1975، من بطولة سعاد حسني نفسها، والذي تعرضت فيه بالفعل لواقعة اغتصاب على يد "فرج" رجل الأمن بشع الملامح، بينما لعب كمال الشناوي دور "صفوان" رئيس الأمن، وكان من الواضح هنا أن الفيلم والرواية (كتبها محفوظ)، يستعيران أسطورة صلاح نصر.

يقال إن سعاد انهارت بالفعل أثناء التصوير ودخلت في نوبة بكاء، بعد هذا المشهد، وربما سعت من خلاله إلى التطهر الروحي مما جرى معها، وليس مجرد فضح مساوئ نظام سابق.

أما المعالجة الأشهر لقصة رجل الأمن وتجنيد الفنانات، فقدمها الكاتب وحيد حامد الذي رحل قبل أيام في "كشف المستور" عام 1994، إخراج عاطف الطيب، ولعبت نبيلة دور الفنانة المجندة "سلوى شاهين" التي قالت مقولتها الشهيرة: "يعني كل الكفاح اللي كافحناه على السراير لأجل الوطن.. مجبش أي نتيجة".

 أيضًا كان التركيز على تجنيد رجل الأمن- يوسف شعبان- لها في أنشطة السفارات، فالواضح أن القصة تستلهم بشكل مباشر كتاب اعتماد خورشيد، وملفات القضية الموصوفة كانحراف فردي من بعض رجال الأمن، دون أن يكون لها أية قيمة وطنية. وانتهى الفيلم بقتل سلوى شاهين، والفاعل مجهول!

مصرع السندريللا

كأن "كشف المستور" نبوءة بالمصير المحزن الذي انتهت إليه سعاد حسني بالسقوط من شرفة منزل في لندن عام 2001. ورغم أن كتاب خورشيد، ثم فيلم "كشف المستور" صدرا في عز سطوة الوزير صفوت الشريف، لم يحدث لهما أي منع.

وقيل إن مبارك نفسه دافع عن رجله المقرب بأنه لم يفعل أي تجاوز، وإنما نفذ الدور الوظيفي الذي كلف به كرجل مخابرات.

لكن في المرحلة الأخيرة من حياة سعاد، ترددت أقاويل كثيرة عن رغبتها في نشر مذكراتها، وأنها اتصلت بأحد الصحافيين لمساعدتها في تنفيذ الأمر، لكنه وشى بها إلى جهات نافذة، فكان قرار إسكاتها إلى الأبد.

كان هناك شكوك أن كلامها سوف يطال شخصيات مصرية وعربية نافذة، مثلما أشارت أصابع كثيرة إلى دور "موافي" نفسه في قتلها.

وانتشرت فرضيات ثلاث إما أنها انتحرت تحت وطأة حالتها النفسية والصحية، وإما اغتيلت لإسكاتها، أو ماتت قضاء وقدرًا بعد سقوطها تحت تأثير الأدوية، وفي النهاية حفظت الشرطة البريطانية التحقيق لعدم كفاية الأدلة.

لكن الروايات الكثيرة ظلت فاعلة، وزادها قوة انهيار نظام مبارك، ورحيله برفقة رجله القوي، "موافي سابقًا". فنشرت وسائل إعلام مصرية مقاطع من تحقيقيات النيابة معه.

كما تولت جنجاه أخت سعاد غير الشقيقة، الدفاع عنها وتكريس فرضية مقتلها، من خلال كتابها "سعاد حسني.. أسرار الجريمة الخفية"، بزعم أنها كانت تملك "أسرارًا" تهدد "موافي" نفسه.

من المؤكد أن "الروايات" شيء، والوقائع شيء آخر. فهناك من يرى أن "موافي" استمر في مهنته الأثيرة، حتى بعدما أصبح وزيرًا للإعلام لأكثر من عقدين، وأنه كان يستثمر هذه الشرائط لإخضاع السياسيين والخصوم. وهناك من يرى أنه لعب أيضًا دورًا في مصرع عازف الغيتار الشهير عمر خورشيد عن طريق حادث سيارة مدبر، لم يُحلّ لغزه إلى اليوم.

وربما رواية تجنيد سعاد الثابتة رسميًا، كانت السبب في سهولة تصديق الناس لرواية مقتلها على يديه، رغم أنه لا توجد مبررات كافية كي يفعل ذلك، بعد مرور أربعين عامًا على واقعة تجنيدها.

وبحكم أنه من كبار رموز نظام مبارك التي قامت ضده ثورة، كان من الطبيعي أن يستغل الآلاف لحظة موته، للترحم على سعاد حسني التي رغم كل مآسي حياتها، وما سببه لها الآخرون من آلام، ظلت أيقونة الحب والجمال والخفة والمرح

علق هنا