بغداد- العراق اليوم:
كثيرة هي حوادث الغرق التي تركت آثارها الحزينة في نفوس العراقيين طوال التاريخ، ومن بينها حادثة جرت قبل 58 عاما لازال أبناء ذي قار يحيون ذكراها، حيث فجعوا صبيحة الـ28 من كانون الأول 1962، بغرق 42 طالبة، كنّ في رحلة مدرسية متجهة من شمال المحافظة الى جنوبها، فهزت الرأي العام آنذاك، وأبكت الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم، فقررت الحكومة إقامة أربعينية تليق بألم الفاجعة في بغداد، لكن تقلبات السياسة حالت دون ذلك. القصة الكاملة ويروي المؤرخ والمؤرشف غسان شلاش الذي دوّن تفاصيل الحادثة قائلا إن "يوم الحادث كان مأساوياً على مدينة الشطرة شمالي ذي قار، حيث كانت الأجواء باردة في ذلك اليوم من العام 1962، وقد نظمت مدرسة العفة الابتدائية للبنات، في المدينة، سفرة مدرسية لطالباتها من أجل قضاء أوقات ممتعة في بساتين النخيل بناحية كرمة بني سعيد التابعة لقضاء سوق الشيوخ جنوب المحافظة، والتي تتمتع بطبيعة خلابة كانت مقصدا لمعظم السفرات المدرسية، حيث تم الاتفاق مع السائق المعروف خضير ناهض، وهو من مواليد الشطرة، وأحد أقدم السائقين، للقيام بهذه المهمة عبر باصه الخشبي نوع (VOLVO)". ويضيف شلاش "انطلقت الرحلة عند الساعة السابعة من صباح يوم 28 كانون الأول 1962 عبر الطريق الترابي الضيق المؤدي الى الناصرية والمحاذي لنهر الشطرة، مرورا بناحية الغراف". واستمرت الرحلة حتى وصولها الى قضاء سوق الشيوخ الساعة 9 صباحا، ثم توقفت قرب مدرسة سوق الشيوخ الابتدائية، بعدها تحركت نحو الجسر الخشبي العائم والمسمى جسر البطاط، وكان على السائق أن ينزل كل حمولته، منتظرا دوره في العبور لكي يعطي إشارة من قبل الجسار (وهو موظف لدى البلدية مهمته متابعة عبور السيارات بشكل متعاقب) الموجود بالضفة الاخرى والذي أعطى إشارة للسائق بالرجوع للخلف". ويتابع، "لكن السيارة كانت تتجه الى الضفة الأخرى من نهر الفرات عبر نفس الجسر، وحينما وصلت الى منتصفه وقبل صعودها من المنخفض، بدأت سيارة مدرسة العفة بالوصول الى وسط الجسر، وتقدمت السيارة الأخرى نحو المقدمة بصعوبة، لأن الجسر لا يحتمل سيارتين، لكن المديرة أصرت على عدم نزول الطالبات خوفا عليهن من مياه النهر". ويردف، "لسوء الحظ كانت المياه انخفضت قبل ليلتين، وفي ذات الوقت كانت أبواب السيارة مربوطة بالحبال، حينها بدأ السائق يسمع أصوات تقطع الحبال بحسب شهادته التي أدلى بها حول الحادث الذي توفي بعده بـ15 عاما، وبعد أن وصلته المياه حاول إعادة السيارة للخلف أو الأمام، لكن دون جدوى وبدأت تغرق"، قائلا "كنت أسمع حينها صرخات بكاء الطالبات بشكل جنوني، بعدها هرع شباب سوق الشيوخ لإنقاذ البنات من النهر". وينقل شلاش عن إحدى الناجيات وهي ساجدة كاظم، روايتها حول ما جرى قائلة "كنت في الخانة الاخيرة من الباص، وكان يجلس معي ثلاثة أولاد صغار وخمس بنات، بالاضافة الى مساعد السائق، وبعد ان تمايل الباص مع تمايل الجسر نحو اليمين واليسار، رأيت بعيني تفكك الجسر، وانفراط عقد الدوب (وهي قطع خشبية تشكل الجسر العائم) باتجاهين وسقوط مقدمة السيارة، حيث سقط الذين معي الى وسط السيارة التي بدا الماء يتسرب اليها". رفعت ساجدة رأسها الى سقف الباص، حيث كانت هناك فتحات لشم الهواء، مبينة في روايتها التي يقدمها المؤرشف غسان شلاش "وصلت المياه الى أكتافي ولم اشعر بعدها إلا بأحد الشباب الابطال، وهو يسحبني نحو اليابسة، ففتحت عينيّ على جرف الفرات، وقد فجعت بجثامين زميلاتي وهي مغطاة، لافتة بالقول "لم أنس أن أحدأ قد لف جسدي المبلل بسترته، وكانت فيها اقلام ومحفظة، وقتها كدت أموت من البرد القارس وعيناي تشخصان نحو الباص الذي استقر في المياه، ولم يظهر سوى القليل منه". موقف بطولي يقول مصطفى الفارس، وهو قريب لأحد المنقذين لحادثة السفرة المدرسية، وتوفي قبل سنوات، إن قريبه كان متواجدا في لحظة سقوط باص الطالبات من على جسر البطاط، فـ"هرع وأنقذ عددا منهن رغم برودة الماء والجو مع عدد من الشباب المتواجدين في السوق". ويضيف بأن "شباب سوق الشيوخ تجمعوا بشكل سريع أمام الحادث، وسارعوا الى رمي أنفسهم من أجل إنقاذ الفتيات الصغيرات، وإسعافهن من الموت والبرد، لكنهم للأسف انتشلوا جثثا لأن معظم تلك الفتيات قد توفين بعد لحظات من سقوط الباص"، منوها الى أن "قليلا منهن بقين على قيد الحياة". ويتابع، أن "جسر البطاط منذ الحادثة وحتى اليوم، ظل علامة بارزة وحزينة، ولايزال أهالي سوق الشيوخ يتذكرون الحادث ويشعلون الشموع ويقرأون الفاتحة على أرواح البنات اللاتي غرقن قربه"، لافتا إلى أن "الجسر رغم بنائه بالكونكريت قبل سنوات طويلة، لكنه لا يزال يحتفظ بجزء من الألم الذي تحول الى مأساة في نفوس الناس". وبحسب حديث الأهالي آنذاك، (يكمل الفارس حديثه) فقد شكلت الحادثة فاجعة، حيث علت النداءات من الجوامع، وتم استنفار كل من يمكنه تقديم المساعدة، إذ لم تكف توابيت المدينة لنقل 42 جثمانا الى الطب العدلي في مستشفى الجمهوري بالناصرية، واستقبل أهالي الشطرة تلك الجثامين، ثم ذهبوا بها الى النجف الأشرف لدفنها، وهناك أصبحت مقر قبورهن علامة ودلالة معروفة في مقبرة وادي السلام باسم "مقبرة الغركَانات (الغارقات)". بعد الحادثة تم القبض على السائق والحكم عليه بالسجن، كما يقول المؤرخ غسان شلاش، لكن أهالي الضحايا تنازلوا عن حقهم في العقوبة، وبعد الحادثة انقطعت المدارس والاحتفالات المدرسية لمدة ثلاثة أعوام أي حتى العام 1965. تقلبات السياسة الحادثة هزت الصحافة العراقية، ووصلت أخبارها الى رئيس وزراء العراق آنذاك الزعيم عبد الكريم قاسم الذي بكى ألماً وحزناً على الضحايا، حيث قرر اقامة مراسم فخمة لذكرى أربعينية الراحلات (مرور 40 يوما) إلا أن اليوم المقرر وهو 8 شباط من العام 1963 شهد انقلابا عسكريا أطاح بـ"الزعيم" قاسم. وحتى اليوم لا زال ذوو الضحايا أو أقرباؤهن يستذكرون تفاصيل الحادثة مع حلول ذكراها كل عام، لكن أحدا من الناجيات، لم تعد موجودة، فبعضهن توفين في السنوات الماضية، أو أنهن قد غادرن "الشطرة" لأسباب مختلفة.
*
اضافة التعليق