بغداد- العراق اليوم:
لأن مصطفى الكاظمي مثقف حر، ومعاصر ، تنطبق عليه توصيفات المفكر الماركسي الإيطالي غرامشي، وملامحه في هوية المثقف العضوي ومتبنياتها الواقعية الصادمة، ولأنه كاتب إحترف الكتابة والإعلام - قبل أن يحترف السياسة والإشتغال رئيساً للوزراء، وقد أنجز عدداً من الكتب والدراسات المنتمية ضمناً لجغرافية (غرامشي)! ولأنه يؤمن حد الرسوخ، بجدوى الكلمة، وتأثيرها وأهميتها وسطوعها، وبدورها التنويري في إضاءة الحياة، وإنارة طرقها المظلمة، التي أفتقدت مصابيحها في عتمة ظالمة، أو ربما في غفلة من التاريخ، وهذا يعني ضمناً، أن الكاظمي مقتنع تماماً بأن للكلمة دوراً مميزاً في صناعة الوعي، وإن طريقها أقصر الطرق الموصلة الى ضمير الإنسان السوي، خاصة حين تكون الكلمة سهلة، واضحة، صريحة، نقية، بيضاء، حيث لا تحتاج لجسر، ولا لواسطة، أو حتى لوسيلة إيضاح. وتأسيساً على هذه القاعدة، وهذه القناعة المتحالفة مع الوعي الذاتي، إنطلق رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي حاملاً حرفه المضيء والجريء الى الرأي العام العراقي، لينير به عتمة الكواليس السرية، وما يواجهه شخصياً من تعنت سياسي، ومطبات حزبية معرقلة لإستكمال كابينته الوزارية التي وعد بإنجازها قبيل عيد الفطر المقبل، وقد نفذ الجزء المتعلق به، إلا أن الجزء المتعلق بالقوى السياسية والنيابية، لا يزال محط جدل، بعد أن غيرت القوى السياسية أقوالها - في الخفاء على الأٌقل- ولا تزال مصرة على إخضاعِ حكومة الكاظمي الانتقالية لمنطق "التحاصص" والتقسيم الحزبي، مما عنى فيما عنى، العودة للمربع الأول، وهو ما يرفضه الكاظمي ويرفضه خلفه الشارع المحتج منذ مطلع أكتوبر الماضي. نعم، لقد طرح الكاظمي في مقاله الأول من نوعه، جملة من التحديات التي تواجهه، لكنه لا يتوقف عند الشكوى، أو لربما لم يكن يقصد أساساً أن يشتكي للرأي العام من هذه الضغوط، قدر ما هي مكاشفة مع هذه القوى ذاتها، ووضعها في منطقة المسؤولية الاجتماعية والوطنية والأخلاقية الملزمة لها تجاه تحديات وجودية، قد تدفع بالعراق إلى أن يكون أو لا يكون - لا سمح الله- إن استمر العناد السياسي والعنت ومحاولات استعادة منظومات لا تنتج سوى الفشل والفساد كما أشار الرئيس في مقاله. لقد أراد الكاظمي أن يعيد في طرحه الشامل، ورؤيته العميقة والواقعية لما يجري حوله، التذكير بخطاب التشكيل الوزاري الذي ألقاه أمام مجلس النواب، ويذكر أيضاً بأهمية الوعي التام للظرف الحرج الذي تنطوي عليه التحديات الآنية، وما يمكن أن يحدثه الاستمرار في "استيلاد" مشاكل وأزمات معرقلة لجهوده الحكومية الساعية نحو إصلاح سياسي وأداري واقتصادي يمهد لمرحلة جديدة، بعد أن طوت التظاهرات والاحتجاجات صفحة كاملة من عهد ما بعد 2003، بكل انتكاساته وتحدياته، ولربما ايجابياته التي منها هذا التداول السلمي للسلطة، والبيئة الدستورية التي لا تزال رهاناً على مدى ترسخ الإيمان والعقيدة السياسية لدى القوى الفاعلة في اتجاههًا نحو مشروع الدولة. أي الدولة الديمقراطية القائمة على مبادئ العدل وسيادة القانون والفصل التام بين المؤسسات، والاحتكام للدستور ومؤسسات القضاء المستقل، وقبل ذلك شيوع المواطنة كممارسة وفكر في المجتمع، والتنمية الشاملة والاستقرار الاجتماعي والسيادة الوطنية غير المنقوصة أو المشكوك بها كما يشير المقال. جملة من التحديات الغائرة في عمق الأزمة العراقية، حضرت في مقال الكاظمي هذا، ولربما لمس من قرأ المقال كاملاً، أن الرجل يريد إن يضع أمام الجميع خارطة للتحديات، ومقابلها طريقاً للحلول التي يراها، وهنا أيضاً إشارة ايجابية عن وجود نية وعزم لدى الرئيس الكاظمي في سبيل إنهاء هذه المشاكل والتحديات بطريقة مثلى وحقيقية. لذلى يطرح الكاظمي ملفات هامة، منها ملف الاقتصاد الذي بات يعاني اضطراباً مخيفاً نتيجة لغياب الرؤية الشاملة لدى الحكومات المتعاقبة التي لم تدر في الحقيقة عملية اقتصادية بمفهومها العلمي، قدر ما أدارت صندوقاً لجمع الإيراد النفطي، ومن ثم توزيعه بطريقة بعيدة كل البعد عن التخطيط والمفهوم الاقتصادي لتحقيق "الريوع" النفطية للتنمية الاقتصادية، وكانت سياسات الارتجال حاضرة وبقوة، بل ويمكننا نحن ان نتهم بلا تردد، سياسات التعمد في تبديد الفرص الاقتصادية الهائلة التي وفرتها - الوفرة المالية - وأيضاً الارتفاع النوعي لأسعار النفط، والتي كان من المكن أن تهيئ الوضع لبناء اقتصاد قوي وحقيقي، ولكن الفرص ضُيعت، ولم يجرِ على الأٌقل تأسيس صندوق المستقبل كما تفعل الدول النفطية عادةً، وهذا ما أشار إليه الكاظمي في حديثه المكتوب. كما يطرح الرجل بلا مواربة ملف سيادة القانون في البلاد، في ظل انتشار السلاح خارج المؤسسات الشرعية المخولة بحمل السلاح، ويعيد التذكير، باستحالة الشروع بتأسيس دولة السيادة القانونية، ما لم يتم حصر السلاح بيد الدولة، وتقويض أي قوى خارج مؤسسات الضبط القانونية العاملة وفق المستويات القضائية والشرعية، وهنا يشير الرجل إلى أهمية تخلي القوى السياسية عن فكرة وجود بدائل للدولة في معادلة أية اختلالات قد تؤشر، أو تبديد أي مخاوف متوارثة، وعلى الجميع الإيمان والثقة بأجهزة الدولة الأمنية والعسكرية، بعد إن تعاد هيكلتها بشكل يطمئن الجميع إلى أن مستويات من الاحترافية والاستقلالية والمهنية قد بدأت تأخذ دورها في تشييد هذه المؤسسات وفق القانون.
ختامًا، لا بد من الإشارة إلى أن الكاظمي وبذكاء مميز، قد استطاع تمرير رسالة واضحة للقوى السياسية أو لنقل لبعضها التي تريد إن تبتزه لربما، والتي تريد إن تقول له أنها قادرة على فعل أي شيء ما دام رئيس الوزراء بلا كتلة نيابية تدعم حكومته، ولئن استشهد الرئيس بالآية القرآنية، متوكلًا على الله في مهمته الوطنية الإنقاذية، نود تذكير هذه القوى اياً كانت أن هذه الأساليب لم تعد تجد صدىً لها في شارع بات ناقماً على الكل، ويريد إن ينقض على الجميع، وبات اليأس هو البضاعة الأكثر رواجاً بين الناس، فلا تستعجلوا بلاءً قد تكون السماء أخرته بهذه الفرصة، فاغتنموا الفرص، لأنها تمر مرور السحاب.
*
اضافة التعليق