بغداد- العراق اليوم:
د . هادي حسن عليوي
منذ العام 1955 كنتُ مستمعاً جيداً لخطب الرئيس جمال عبد الناصر من إذاعة القاهرة وياما أكثرها في تلك الفترة.. وكنتُ أحفظها على ظهر قلب.. بل أشرحها بشكل لا يصدق.. وكان والدي رحمه الله يجيب عن كل استفساراتي عنها.. فترعرعت قومياً عربياً متفتحاً.. كأكثرية أبناء جيلي آنذاك.. وهكذا عندما قامت ثورة 14 تموز كنتُ أحد القوميين الناصريين النشطاء فكراً.. وليس بالأسلوب الغوغائي الذي مارسه قوميو ويساريو تلك الفترة أبداً. وفي فجر يوم 14 تموز 1959.. (أي يوم الذكرى الأولى لثورة 14 تموز 1958).. القيً القبض علينا من قبل بعض أفراد الانضباط العسكري.. وذلك بالقرب من مدرسة الإعدادية المركزية القريبة من وزارة الدفاع.. عندما كنا نخط بصبغ البويه على السياج الخارجي للمدرسة شعارات ضد الزعيم عبد الكريم قاسم والدعوة لإسقاطه.. واقتادنا الانضباط العسكري إلى وزارة الدفاع.. لكون مقر الانضباط العسكري فيها.. كذلك كان مقر الزعيم عبد الكريم قاسم فيها أيضاً. كنا خمسة (أنا.. ونجاد.. ومهدي. وستار.. وصباح).. بعد حوالي ثلاث ساعات في نظارة وزارة الدفاع.. حقق معنا العقيد الركن عبد الكريم الجدة آمر الانضباط العسكري.. وبشكل متشنج.. لكنه لم يتجاوز علينا بالضرب أو بالكلمات.. وفي الساعة العاشرة من صباح نفس اليوم أدخلنا الجدة إلى قاعة كبيرة ومؤثثة.. ولم تمر عشرة دقائق حتى دخل علينا الزعيم عبد الكريم قاسم ترافقه ثلة من كبار الضباط.. أتذكر منهم: أحمد صالح ألعبدي:الحاكم العسكري العام.. والعقيد فاضل عباس المهداوي: رئيس محكمة الشعب.. والمقدم وصفي طاهر.. والنقيب جاسم العزاوي مرافقي الزعيم.. إضافة إلى العقيد الجدة.
الطلبة.. والسياسة: سلمً علينا الزعيم عبد الكريم قاسم.. وصافحنا واحداً واحدً.. وعندما علمً إننا جميعا طلاب في الخامس العلمي (لم يكن آنذاك صف سادس) تأثر الزعيم كثيراً.. والتفتً إلى العقيد عبد الكريم الجدة.. وقال له: كريم هؤلاء متآمرون !!.. هؤلاء أبناؤنا.. ولا بد أن يكملوا دراستهم.. والعراق بحاجة إليهم ).. سكت الزعيم برهة.. فسألنا العقيد فاضل عباس المهداوي عن الأحزاب التي ننتمي إليها.. قاطعهُ الزعيم قاسم قائلاً له: (أبو العباس: الشباب ضيوف عندنا ولا نحقق معهم).. وابتسم الزعيم بوجوهنا. المهم: كل ما قال الزعيم: (بالتأكيد لم تفطروا حتى الآن.. سنجلب لكم ريوك.. ماذا تريدون؟ كاهي السيد بالقيمر..لو كباب اربيل).. وهاتان الأكلتان كانتا أفضل الأكلات في بغداد..آنذاك.. طأطأنا رؤوسنا خجلاً من هذا التعامل.. الذي لم نكن نتصوره حتى في أحلامنا.. ثم ترك الزعيم ورفاقه القاعة.. بقينا نحن مشدوهين.. وينظر كل واحد منا الى الآخر دون أن ننطق كلمة واحدةً. بعد حوالي ربع ساعة أدخلوا علينا الطعام (من الأكلتين).. وبعد أن فطرنا وشبعنا وشربنا الشاي المهيل.. دخلً الزعيم علينا ثانية..وخاطبنا قائلاً: (أبنائي.. العراق بحاجة إلى كل أبنائه.. خاصة الشباب المتعلم لبنائه.. والبناء سلاحه العلم.. أرجوكم.. أرجوكم.. ومن أجل بلدكم أولاً ومستقبلكم.. أن تدرسوا وتكملوا دراساتكم وتتخرجوا من الكليات.. وبعد ذلك اشتغلوا بالسياسة.. سواء كنتم مؤيدين للحكومة أم معارضين لها.. فالكل في خدمة العراق). بعدها صافحنا الزعيم ثانية وودعنا.. وخرجنا من وزارة الدفاع.. ونحن لم نتكلم كلمة واحدة حتى مع أنفسنا خجلاً. وهكذا أخذنا بوصية الزعيم فكان خمستنا يحملون الدكتوراه.. وخدمنا العراق وشعبنا حتى اليوم.. دراسة.. وثقافةً.. وعلماً.. وأعماراً.
انتفاضة أكتوبر.. والدراسة: انطلقت انتفاضة أكتوبر 2019.. بشبابنا اليافعين والورود..والخريجين وغير الخريجين.. ومن كل شرائح المجتمع.. لمطالب حيوية وحياتية ومجتمعية.. لتتطور بشكل سريع الى إصلاح النظام السياسي ككل. وشكلت ثورة حقيقية أسقطت رأس النظام (رئيس الوزراء).. وهي ماضية لإسقاط النظام. وإقامة البديل لبناء العراق. لكن الغريب يطلع علينا نقيب المعلمين مبكراً ويعلن توقف الدراسة لمساهمة الطلبة مع الشباب المنتفضين.
طلب باطل أريد به حق: كان يمكن للنقيب وأعضاء مكتب نقابة المعلمين أن ينصبون خيما بساحات الاعتصام في كل المحافظات.. ويطالب النقيب المعلمين والمدرسين الالتحاق بالتظاهرات بعد الدوام الرسمي.. ويدعو الطلبة الى مضاعفة دراستهم.. وتعتبر مشاركتهم بالتظاهرة أن يرفعوا نسب النجاح والتفوق في بناء العراق. لكن نقيب المعلمين أصر في عدم عودة الطلبة لمقاعد الدراسة.. وحرم الطلبة ثلاثة أشهر بلا دراسة.. بلا تعليم. إنها السياسة الغبية التي سار بها نقيب المعلمين لا لخدم العلم ولا لخدمة التظاهرات.. بل لخدمة كتلته السياسية.. التي رفضها الشباب المنتفض.. كما رفض بقية الكتل السياسية الفاسدة.. مثلما رفض الشباب سيده في أن يكون مرشحا لمنصب رئيس الوزراء.
*
اضافة التعليق