بغداد- العراق اليوم:
تفاصيل اعتقــالي في سجــن "الحارثية". (شهادة عن أحد معتقــلات الدكتاتــور صدام).
أحمد عبد السادة
الكلام الذي قاله الفنان "البعــثي" جواد الشكرچي عن معــتقل "الشعبة الخامسة" الذي حوله بالتلفــيق والأكاذيــب إلى "مركز مساج" و"منتجع سياحي"!!، ذكرني بما حصل لي في شهر تموز من عام 1998 عندما تم اعتقــالي لمدة أسبوع في سجــن "الحارثية" بمنطقة "كمب سارة" ببغداد. كنت آنذاك طالبا في السادس الأدبي بثانوية "الجزيرة" في منطقة المشتل، وكنت عائدا من منطقة الشورجة - حيث أعمل بائعا للحلويات - إلى بيتنا في منطقة العبيدي، ففوجئت بوجود سيطرة للانضباط العسكري في شارع فلسطين قرب ساحة بيروت بعد وقت الغروب بقليل. تم إيقاف سيارة "الكوستر" التي كنت أركب فيها وتم إنزال جميع الركاب وتدقيق هوياتهم. لم يقتنع عنصر الانضباط العسكري بصحة هوية الطالب التي أعطيتها إياه، وقرر اعتقــالي بتهمة الهروب من الخدمة العسكرية الإلزامية، وسرعان ما تم اقتيادي إلى سيارة نقل ركاب كبيرة نوع "ريم" كانت مركونة في أحد الشوارع الجانبية القريبة لألتحق بمجموعة من "الهاربين" أو المشكوك بأنهم هاربون من الخدمة العسكرية التعسفيــة والمهينــة. كنت أسمع فقط بسجن الحارثية وبحكايات ومكابدات المعتقليــن فيه، ولأنني كنت أريد أن أكون أحد الشهود على زمن الطغيـــان البعثــي الصدامي الأســود، قلت مع نفسي: هذه فرصة لاكتشاف هذا المعــتقل المخيــف وتوثيق ما يجري فيه!!!. لم يدم انتظارنا في سيارة "الريم" طويلاً، وسرعان ما تحركت بنا السيارة صوب المعــتقل. عندما وصلنا للمعتقل تم إيقافنا في طوابير مع معتقلين آخرين لتدوين أسمائنا ومعلوماتنا، وبعد انتظار طويل ومهين تم إدخالنا وحبسنا في قاعة كبيرة "جملون" ذات أرضية إسمنتية قــــذرة وخالية من أي أفرشة وأغطية، وهي قاعة تعد واحدة من قاعات كثيرة "جملونات" يمتلئ بها المعــتقل. الأمر الأول الذي يفكر فيه المعــتقل عند حــبسه في هذه القاعة هو كيفية النوم على الأرضية الإسمنتية الصلبة، ولم يكن هناك من حل للمعتقل سوى استخدام "نعاله" كوسادة لرأسه!!، ولكم أن تتخيلوا حجم الإهانـــة والتنكــيل والتعذيــب والتفنن بسلب كرامة وإنسانية الإنسان، علما أن هناك معتقليــن في بعض السجــون الصدامية لم يسمح لهم حتى باستخدام "نعلهم" كوسادة، ناهيك عن أساليب التعذيـــب والتنكيــل الأخرى. صباح اليوم التالي امتلأت القاعة بمعتقلين آخرين من مختلف الأعمار والأشكال، وفي غمرة تطلعي بوجوه المعتقليــن تعرفت على جار لنا في المنطقة وأصبح رفيقا لي في المعــتقل ليومين قبل أن تفرقنا إجراءات النقل بين "الجملونات"، كما تعرفت على جار آخر لكنه لم يعرفني لأنه كان قد أصيب بالجنون المطبق، وكنت انظر إليه باندهاش وألم وأنا أراه يضحك بجنون ثم يجلس في إحدى الزوايا بملابسة الرثـــة المتسخـــة وشعره الأشعــث ليباشر بمضغ قطعة الخبز التي يحملها بيديه، وعرفت لاحقاً بأنه أصيب بالجنون بسبب الضــرب والاعتقـــال المزمن في "الحارثية"!!. كان الأكل يقدم للمعتقلين في أحواض من الفافون تطلق عليها تسمية "قصع". لكل عشرة معتقلين تقريباً "قصعة" واحدة لا يصمد الأكل فيها سوى دقائق معدودة بسبب صراع الأيدي حول الطعام لإشباع الأفواه الجائعة والأمعاء الخاوية، ولأنني بطيء في الأكل فلم أشبع أبداً في أي وجبة من وجبات المعــتقل القليلة أصلاً. كانت "القصع" في وجبة الفطور تقدم إلينا مملوءة بشوربة خفيفة كأنها الماء، وقد تناولتها مرة واحدة فقط، لأنني في صباح اليوم الثاني في "جملون" الحجز كنت أراقب حركة المعــتقل الخارجية من ثقب في "الجملون" وشاهدت بأم عيني كيف يحمل بعض جنود الانضباط العسكري المياه الثقيلة للصرف الصحي بـ"قصع" الطعام، ثم يغسلونها بالماء بشكل سريع ليتم ملؤها لاحقاً بالشوربة للمعتقلين. حينها قررت أن لا أتناول شوربة المعـــتقل أبداً!!. بدون أدنى سبب كانت هناك "حملات" يومية لإهانــة المعتقليــن وضــرب بعضهم، وحملات الإهانـــة والضــرب هذه يقوم بها ضباط برفقة عناصر من الانضباط العسكري. يومياً مثلاً كان يتم اقتحام "جملونات" الاعتقـــال بشكل مفاجئ وضـــرب المعتقليــن بشكل عشوائي بالعــصي والأحزمة لتجمعيهم وحصرهم في نهاية "الجملون"، حيث يتكدس غـــائط بعض المعتقليــن وحيث تتجمع قدور البـــول الكبيرة الخاصة بالمعتقلين، لأنه لا يتم السماح للمعتقلين باستخدام دورات الميــــاه الخارجية القــــذرة أصلاً سوى مرة واحدة في اليوم!!. كانت عملية ضـــرب وحصـــر المعتقليــن في نهاية "الجملون" تسمى "زاوية" من قبل سكان المعـــتقل!!. في إحدى "العصريات" تم إخراج كل المعتقليــن من كل "الجملونات" وتجميعهم في ساحة وإجبارهم على الجلوس على الأرض لمشاهدة عرض عنفــي يتمثل بقيام ضباط وجنود انضباط بضـــرب عدد من المعتقليــن بشكل عنيـــف ومليء بالقســـوة والوحشيــة. كان هذا العرض العنــفي هو رسالة رعــب لكل المعتقليــن الذين سينقلون بدورهم الرسالة هذه إلى المجتمع، وهذه الرسالة مفادها أن هذا الضـــرب الوحـــشي هو مصير كل من يخالف أوامر صدام. كان صدام يديم حكمه الدكتاتـــوري من خلال عروض العنــف ورسائل الرعـــب هذه. هناك مشهد مؤلــم في المعتــقل لم يفارق ذاكرتي أبداً، وهو مشهد شاب معتقــل أنيق ووسيم انزعج أحد نواب الضباط من أناقته ووسامته وأمره بأن يزحـــف بملابسه النظيفة والجديدة في مياه الصــــرف الصحي الطافحة في باحة قرب دورات المياه، وعندما رفض المسكين انهال عليه نائب الضابط بالضـــرب والشتائــم حتى استسلم المسكين واضطر للزحف بالمياه الآســـنة وسط نظرات المعتقليـــن الخائفة والمشفقة عليه. لم يكن يسمح للمعتقلين باستخدام الهواتف الأرضية لإبلاغ ذويهم بأنهم معتقلــون لاتخاذ الإجراءات اللازمة لإخراجهم إذا كانوا غير هاربين من الخدمة العسكرية مثلي، وإنما كان يتم الذهاب بهم إلى مناطقهم وبيوتهم وأهلهم في سيارة "الريم" وهم مكبلــون ليس لإبلاغ أهلهم فقط، وإنما للتأكد من المعلومات التي قدموها لآمرية الانضباط العسكري وللتأكد من أسمائهم ومن موقفهم من الخدمة العسكرية الإلزامية، من خلال عرض المعتقـــل أمام جيرانه ومطالبة الجيران بكشف اسمه، وهناك عدد من المعتقليــن قدموا لآمرية الانضباط هويات مـــزورة بأسماء مزيفـــة، وتم كشف الأمر من خلال جيرانهم الذين نطقوا بأسماء المعتقليــن الحقيقية، ليتم بعد ذلك ضـــرب المعتقـــل أمام جيرانه وأهله تمهيداً للضـــرب الأقــسى الذي سيتلقاه في "الحارثية". عندما وصلت بي سيارة "الريم" مع بعض المعتقليــن إلى منطقتي لم أشأ أن تراني والدتي وأنا مكبـــل، فطلبت من نائب الضابط الذي كان معنا بأن يبلغ جيراننا بالأمر، فوافق وأمرني بالسكوت، وطلب من ابن جيراننا الصعود للسيارة وسأله عن اسمي فأجابه: اسمه أحمد. وسأله مرة أخرى عن عملي، فأجابه: طالب. وبعدها أمر نائب الضابط السائق بالتحرك وقال لإبن جيراننا: گل لأهله ابنهم مسجـــون بالحارثية. خل يجيبون تأييد من المدرسة ويجون يطلعوه بعد يومين قام أخي مازن بجلب تأييد من مدرستي وخرجت من الحارثية وأنا أفكر بكل عذابـــات ومكابدات المعتقليــن المساكين الذين تركتهم خلفي. أثناء اعتقالي كان يرادوني سؤال مفاده: إذا كان المعتقلـــون في الحارثية - وأغلبهم مشكوك بأمرهم وغير مدانين حسب وجهة نظر النظام نفسه - يتعرضون لكل هذا التعذيـــب والتنكـــيل ولكل هذه القســــوة والإهانـــة، فما هو إذن حال المعتقليـــن في "الشعبة الخامسة" وما هو حال المعتقليــن السياسيين في مديرية الأمن العامة و"الحاكمية" و"أبو غريب" و"الرضوانية"؟!!. لقد كنت اردد مع نفسي طوال فترة اعتقالي ووسط العذابــــات والآلام، عبارة الشاعر التشيلي نيرودا التالية: "لتلمس جفوني كل هذه.. حتى تعرفها... حتى تتجرح... وليحتفظ دمي بنكهة الظل الذي لا يستطيع السماح بالنسيان".
*
اضافة التعليق