بغداد- العراق اليوم:
قصي الصافي
نيتشة ...عودة الى البربرية
الجزء الثاني
إنكار نيتشه لحقوق الانسان على اعتبارها حقوقاً طبيعية ، واشتراط التمتع بها بقوة الاقتدار ، ينسحب على مواقفه من المرأة والعمال واستهانته بقيمة العمل. بالعودة الى مقالة "دولة الأغريق" يقول أن العمال والمزارعين وعامة الناس يؤدون أعمالهم بغية تأمين العيش ، اي لتأمين وجودهم فحسب، والوجود بحد ذاته لا قيمة له ، لهذا فالعمل اليدوي عديم القيمة ، بل ان الاغريق كانوا يرون في العمل ضعه ويحتقرون من يتعيش منه. وقد كتب في كتابه افول الاصنام " ان الغباء أو انحلال الغرائز الذي نشأت عنه كل أنواع الغباء اليوم هو السبب في وجود شئ إسمه : مسألة عمالية ...... إن كنا نريد عبيداً فاننا سنكون حمقى اذا ربيناهم تربية أسياد". نالت المرأة قسطا كبيراً من التقريع والازدراء في كتابات نيتشه ، فهي بنظره للتملك والانجاب والجنس وخدمة الرجل لا غير ( أما الرجل العميق في روحه كما في رغباته ، والعميق ايضاً في ذلك العطف القادر على الصرامة والقسوة، فلا يمكن الا ان يفكر في المرأة الا شرقياً دائماً: اي عليه ان ينظر الى المرأة بوصفها ملكاً ، بوصفها ملكية يقفل عليها ، بوصفها شيئاً كتب عليه أن يخدم وان يجد كماله في ذلك) (16)، وفي هجوم لاذع على حركات تحرير المرأة كتب قائلاً ( من يريدون الهبوط بها الى مستوى الثقافة العامة، و جرها حتى الى قراءة الجرائد ومزاولة السياسة ......من يريد جعل النساء أرواحاً حرة و أديبات...... فيجعلوهن يوماً بعد يوم أكثر هستيرية وأقل استعداداً لمهنتهن الاولى والاخيرة ، وهي انجاب الاولاد الاقوياء) (17)، حتى هذه المهنة التي حددها تصبح مثلبة للمرأة، فيصفها بالدهاء الماكر وهي تضلل الرجل باقناعه ان ما تقوم به من عمل ذا قيمة كبرى !! أما الزواج عنده فلا أساس له سوى غريزة الجنس والتملك، تملك المرأة والطفل !! وعلى لسان زرادشت تصدم عبارته اي رجل معاصر ( أذاهب الى المرأة؟ اذن لا تنس ان تاخذ معك السوط) (18).
رغم أن نيتشه لم يسهب في تمجيد العرق الآري، إلا ان دارسه لا يمكنه المرور دون التوقف على بعض تلميحاته التي قد تشي بشيء من الاستعلاء العرقي ، ( كل الشعوب قبل الآرية على الخصوص إنما يمثلون تخلف الانسانية) (19). في"جيولوجيا الأخلاق .. فقرة 5" يأخذنا في جولة في لغات مختلفة باحثاً عن معنى النبيل والعامي أو الشعبي ليخلص الى ان كلمة نبيل تعني الصادق، الشريف ، الشجاع ، عريق النسب في مقابل العامي الكذاب، الوضيع، الجبان ... الخ ، و ان العامي في اللاتينية تشير الى داكن البشرة أسود الشعر، تمييزا عن النبلاء ذوي الشعر الأشقر من العرق الآري، ثم يخلص الى ان السكان الاصليين في اوربا والذين تميزوا بصغر حجم الجمجمة وسواد الشعر، كانوا عرقاً مغلوباً فاصبحوا العرق الغالب فيزيولوجياً وفكرياً باختلاطهم مع عرق الأسياد، العرق الآري، ويرجح انهم مصدر ما يراه ارتداداً كالديمقراطية الحديثة والاناركيه والميل الى حياة الجماعة والاشتراكية، و التي تمثل بتعبيره ( ضربة ارتدادية هائلة _ وأن عرق الغزاة والاسياد ، عرق الآريين ، انما هو في انحطاط حتى فيزيولوجياً). تتكرر في كتابات نيتشه اختلاط الاعراق ونقاء النسب والدم وهي مفاهيم بالية لا تليق بفيلسوف ، ومع ذلك لا يعجز انصاره عن ايجاد مخارج تأويليه لتسويغها. كما يعتمد نيتشه على معاني مفردات اللغة ليعيّن التمايزات في انماط التفكير والميول الفكرية والاجتماعية، ليس بين الاسياد والعبيد فحسب، بل بين العرق الآري السيد و عرق العبيد من الملونين، وبهذا يناقض منهجه الجينولوجي نفسه، فللغة محمولاتها المفاهيمية والاجتماعية المنبثه فيها ، و التي تعكس الأنساق الفكرية للثقافة السائدة، وهذه بدورها تتشكل بالتناغم مع مصالح وميول السادة الذين يتمتعون( بارادة اقتدار اكبر) وليس العكس، فحين يسبغ الا ستقراطيون الاغريق على انفسهم صفة" الحقانيين"،فان ذلك لا يعيّن حقيقتهم، بل نجاحهم في تأسيس ثقافة إجتماعية تؤمّن لهم السيادة، وفي العربية أصبحت النبالة تعني الشرف والشهامة ، واطلق على النساء مصطلح الحريم، فهل تمثل تلك المفردات حقيقة الموصوف، أم تعكس ثقافة تقليدية إقطاعية سائدة؟ ! .
تختبئ النزعات الرجعية في نصوص نيتشه خلف احجبة الرمزية والتأويل، اذ يخضعها الاكاديميون والمثقفون المفتونون به الى سلسلة لا نهائية من التأويلات وتأويل التأويلات حتى يختفي الاصل . هناك من يزعم ان فلسفة نيتشه تهدف الى تحرير الفرد من منظومة الالزامات القيمية والأخلاقية، التي فبركتها القوى الدينية والاجتماعية المهيمنة، واخراجه من ظلامية ثقافة القطيع ، والشعور بالذنب والضعف، والاقبال على الحياة الحقة، ليحيا حراً بتفعيل ارادة القوة المعطلة داخله، فهل يصمد هذا الزعم أمام الكم الهائل من النصوص الصريحة _التي لم نذكر سوى عينه منها_ والتي تؤكد ضرورة العبودية وان ( من الحماقة أن نربي العبيد تربية الاسياد)، ومن أغرب ما قرأته في باب التأويل ان هجوم نيتشه على العقلانية يمثل رفضاً للعقل المادي النفعي للحداثة، والذي كانت من نتائجه الحروب واستعمار الشعوب ، ولكن أما كان نيتشه يرى ان الحروب الدائمة ضرورة، و أن الاسياد هم أصحاب الارادة الاقوى؟ ، وكيف يمكننا تأويل حلمه النوستالجي بظهور ارستقراطية جديدة تتسيد على شعوب الارض ( من الآن فصاعداً ستتوفر مناخات لم نعهدها من قبل ، تتأسس فيها امكانية توحد أعراق في العالم، لينبثق منها عرق الأسياد، هم المستقبل ، وسادة الارض ، ارستقراطية عظيمة جديدة ، تقوم على قسوة تشريعاتها الذاتية، التي تتجسد فيها ارادة قوة الطغاة من الفلاسفة والفنانين ، النوع الاسمى من البشر، وبفضل سمو ارادتهم ، ومعرفتهم ، وثرائهم ، وتأثيرهم سيجعلون من اوربا الديمقراطية اداتهم الطيعة للتحكم بمصير الارض). (20)، من الجدير بالذكر ان كلمات : الطغاة، القسوة، التحكم وغيرها لا تحمل ما نعرفه من معان سلبية بالنسبة لنيتشه ، فنحن (قد أرضعتنا ثقافة العبيد)، أما هو فيرى فيها المعاني الخيّرة .
حنين نيتشه الى انبعاث ارستقراطية جديدة ومجتمع اسياد وعبيد، لا ينفي أهمية منهجه البحثي أو ما يدعوه الجينالوجيا، لاعادة النظر والبحث عن جذور مفاهيمنا و معايير الاخلاق في التأريخ، ودراسة سيرورتها وعلاقة تطورها وطبيعة تحولاتها مع قوة الاقتدار لدى الفئات الاجتماعية والدينية المتسلطة، وقد اتبع منهجه مفكرو ما بعد الحداثة ، فكان أبرز من أجاد فيه ميشيل فوكو ، الذي أنجز دراسات هامة عن علاقة السلطة بالمعرفة، وسيرورة التحولات في الرقابة والسجون والعقوبات وارتباطها بمصالح القوى الاجتماعية المتنفذة، الا ان نيتشه قد توصل عبر منهجه البحثي الى نتائج عدمية، ورؤية لا تخلو من توحش، لافتتانه بالفروسية والحروب و مغامرات المقاتلين . يرجع ذلك باعتقادي الى عجزه الشخصي عن تحقيق ما كان يتمنى امتلاكه من قوة المحارب، فآثر ان يشهر السلاح الذي يجيد توظيفه، اي القلم، بدلاً من أسلحة الحرب كتعويض نفسي يهدئ روحه القلقة ، فقد كان طيلة حياته مريضاً ضعيفاً، وحين أراد تقليد الفرسان سقط من ظهر الحصان ، ولم يحظ بموافقة الجيش حين تطوع متحمساً للحرب ضد فرنسا عام 1871 ، بل ولم يصمد لأكثر من شهر واحد حين سمح له بتوزيع السكائر على جنود بلده .
*
اضافة التعليق