بغداد- العراق اليوم:
الكيان العميق الموازي للدولة (١)
كما اسلفت في مقدمة هذا الكتاب ان المنهج المتبع في كتابة هذا البحث هو المنهج الوصفي والمنهج التحليلي حيث اني اعتمد على الخبرة المتولدة من التجربة الشخصية والملاحظة الدقيقة لعمل الدولة من خلال التعاملات اليومية في ادارة المؤسسات الحكومية .
قد يتبادر الى ذهن القارئ الكريم عندما يرى العنوان أعلاه ان كاتب السطور مؤمن بنظرية المؤامرة او ممن يحاولون إيجاد ذرائع لما آل اليه الوضع في العراق ،لكن الاطلاع على ما سبق من فصول وما احتوت من تشخيص لواقع مؤسسات الحكم العراقية قد يوجه تفكير القارئ لدحض هذا الاحتمال والشواهد التي تعيشها المؤسسات والتي سنذكر جزءا منها سيبعد خيال القارئ عن الاعتقاد بإيمان الكاتب بنظرية المؤامرة .
ان مفهوم الدولة العميقة او الدولة الخفية او الكيان الموازي او ما اختلفت عليه التسميات يتمحور من جهة حول منطقة النفوذ في إصدار القرارات الحكومية سياسيا وإداريا بما يحقق مصالح معينة في جميع المجالات للجهات التي تدير هذه الدولة الخفية ومن جهة اخرى حول تعطيل عمل الدولة الاصلية الظاهرة للعيان وتخريب إصدار او تنفيذ اي قرار يضر بمصالح هذه الجهات او تلك الإجراءات التي لاتصب في مصلحة الكيان الموازي لكيان الدولة الدستوري وعادة ما يكون عمل هذه المسميات منظما جدا.
ويمكن تعريف الدولة الخفية انها مجموعة من التحالفات وشبكات العلاقات الممتدة داخل جسد الوطن أفقياً ورأسياً بدون شكل او تنظيم محدد وملموس، وهي تشمل أعضاء برلمان وسياسيين ورجال أعمال ورجال أمن وفنانين وإعلاميين. كل هؤلاء يشكلون شبكة مصالح متشابكة ومترابطة لا يعرف افرادها بعضهم بعضا لكنهم يعملون لهدف مشترك وهو الدفاع عن مصالحهم وامتيازاتهم خارج اطار القانون والمجتمع والدولة، بمعنى آخر دولة داخل الدولة او دولة فوق الدولة.
طبقاً لما سبق فإن الدولة العميقة لها 6 محاور أو أذرع أساسية:
1 الذراع السياسي
2 الذراع المالي
3 الذراع التشريعي
4 الذراع القضائي
5 الذراع الاعلامي
6 الذراع التنفيذي او الأمني
كل ذراع من هذه الأذرع يتحرك في اتجاه معين ولكنه في النهاية يصب في مصلحة الدولة العميقة بشكل او بآخر، الملاحظ ان جميع هذه الأذرع تتحرك بتناغم شديد يدل على وجود رأس او تنظيم معين يحكمها جميعا حتى لا تتضارب المصالح.
اما تاريخ تواجد الدولة العميقة او الكيان الموازي داخل الدول فهو ممتد منذ وقت طويل وقد اتخذ أشكالا عدة فتارة نراه في حواشي الملوك والحكام والخلفاء وامتدادات تلك الحواشي داخل الدولة او في نساء البلاطات والقصور ونفوذ العوائل والعشائر المرتبطة بالحكام على مفاصل الدول وتارةً اخرى نراه في نفوذ دول داخل مؤسسات دول اخرى بشتى الوسائل ، وقد تكون الدولة الخفية تدار من قبل رجال المال والأعمال لتحقيق مآربهم عن طريق النفوذ المالي للسيطرة على مفاصل الدولة ، وأحيانا اخرى يكون رجال الأمن والمخابرات ومؤسساتهم السرية دولة في داخل الدولة بل أقوى من الدولة الظاهرة ، وهناك امثلة كثيرة تصب في هذا المفهوم . ومع مرور الزمن يتطور هذا المفهوم ليتخذ أشكالا كثيرة وتتناسب مع حالة التطور السياسي في ادارة دفة الحكم وتتغير صورها بتغير الزمان والمكان والحالة المجتمعية للبلاد المعنية.
ان الدولة العميقة ليست لوبيات او جماعات ضغط تستطيع ان تعمل في النور وتمارس نشاطها بشكل واضح لتحقيق مصالحها وانما هي قوة منظمة قد تكون مهيكلة او غير مهيكلة تمتلك القدرة على التأثير في القرار او منعه او استصدار القرارات من خلال نفوذها في الدولة والمجتمع دون ان يكون لها حضور مباشر في واجهات اتخاذ القرار.
ومن ابرز الامثلة التي نستطيع من خلالها استيعاب مفهوم الدولة الخفية او العميقة وتاثيرها على مجريات إدارة الدول والحكومات بل والمجتمعات هي المافيات المنظمة في بعض دول أمريكا الجنوبية حيث تقوم عصابات المخدرات والتهريب بتنصيب حكومات ومسؤولين كواجهات لادارة البلد بينما تكون زعامات هذه المافيات هي صاحبة القرار النهائي في إدارة مفاصل الدولة وهي من ترسم السياسات وتهيء القوانين اللازمة لتمشية مصالحها وخططها المتعلقة باعمالها ونشاطاتها ولا تتورع عن ازاحة كل من يعترض او لا يسير في فلكها بشتى طرق التصفية المعنوية والمادية والجسدية .
اما أشهر الدول التي طغى فيها مفهوم الدولة العميقة او الكيانات الموازية فهي تركيا الحديثة خصوصا في سبعينيات و بدايه ثمانينيات القرن الماضي وعاد بصورة اخرى في السنوات الاخيرة ، حيث ان الارتباك السياسي في تركيا في السبعينيات وتصاعد المد الشيوعي وتنامي الصراع بين القوميين والشيوعيين وتحركات حزب العمال الكردستاني وتدخل العسكر في حسم الصراع أدى الى ان يقوم القوميون الى تشكيل دولة داخل دولة بالاتفاق مع بعض الأجهزة الامنية مشكلين مجموعة من التحالفات النافذة داخل النظام السياسي اجندتها تقوم على الولاء لافكار معينة واعتبار انا مصالح الامة تنبع من تطبيق هذه الأفكار داخل اجهزة الدولة، متجاوزين لصيغة نظام الحكم السائد كما ان القرارات السياسية والاستراتيجية تنضج وتصدر من هذه الجهات وليس من المصادر المعنية بالأمر التي تقوم باقرار ومصادقة هذه القرارات. ثم اتخذت هذه الدولة العميقة صيغ اخرى كالمدارس الدينية التي تغلغلت في أوساط المجتمع التركي وانتشر خريجيها داخل الأجهزة الامنية والقضائية والاقتصادية والإعلامية وعملوا بنسق معين للسيطرة على الدولة مما اضطر القيادات التي كانت متحالفة معها في مرحلة ما الى الانقلاب عليها ودخلت تركيا جراء ذلك بمرحلة جديدة من الارتباك السياسي .
اما في العراق ، فبعد سقوط النظام الصدامي بدأت التحولات الديمقراطية في البلد واتجه العراق لان يأخذ دوره المفترص المسمى الحالة المثالية للبلدان التي تتخلص من الانظمة الدكتاتورية وان يكون رائدا في المنطقة من حيث الحالة السياسية والاقتصادية ويستعيد هيبته في المنطقة بعد ان اهانها النظام البائد بسبب حروبه الرعناء ويكون مركز ثقل في المنطقة. لم يرق ذلك لبعض القوى الاقليمية والدولية لتضارب ذلك مع مصالحها المختلفة وتزامن ذلك مع عودة الروح لبقايا البعث والمستفيدين من النظام البائد والذين فقدوا امتيازاتهم جراء سقوطه وبعض المتزمتين قوميا او طائفيا الذين لايستطيعون تقبل فكرة ان تكون ادارة البلد انعكاس لتنوع مجتمعه ، فنشأ تحالف بين هذه المكونات اللازمة لادارة الكيان الموازي والدولة العميقة قوام هذا التحالف عناصر متوزعة في الادارات الحكومية وفي الاعلام والقضاء واجهزة الأمن وداخل الأحزاب السياسية وفي قطاع الاعمال ويقوم هذا التحالف من خلال تنظيم منسق بالسيطرة على مفاصل الدولة وشلها ومنع تقدمها او حتى سيرها الاعتيادي بل واستصدار القرارات السلبية التي تهدم بنية الدولة وتحولها الى حالة اللادولة مستغلة في نفس الوقت جهل الكثيرين بذلك وان كانت تحاكي في سبيل ذلك بعض المصالح الفئوية والمنافع الشخصية لاصحاب القرار غير المنضوين داخل تنظيمات هذه الدولة الخفية لأجل تحقيق مآربها بل ونجحت في خلق مفهوم داخل العراق بان الرمز او الطائفة او القومية او الحزب او العشيرة اهم من الوطن والمجتمع .
في الحلقة المقبلة سنتناول بالتفصيل اليات عمل الدولة الخفية وتأثيراتها على جميع جوانب الحياة في العراق وبالأمثلة والشواهد.