تدوير السلطة: صناعة الشرعية الزائفة

بغداد- العراق اليوم:

يصل المتنفذ إلى كرسي السلطة محمولاً على وعود براقة، لا تختلف في جوهرها عن وعود من سبقوه في التسلط. يُخرج من أدراج الحكومة البرنامج والمنهاج الوزاري السابقين، وينفض التراب عنهما، ويعيد تقديمهما إلى مجلس النواب من دون أن يغيّر فيهما حرفاً واحداً، وكأن الزمن متوقف منذ بداية لعبة الديمقراطية التي تحولت إلى مسرح شكلي لتسمية الوزراء وتوزيع المناصب.

مجلس النواب الغارق في صفقات المحاصصة وتقاسم الغنائم، يمرر الوثائق بلا نقاش حقيقي، فيما يلتزم المتنفذ منهج المحاصصة الذي أوصله إلى الحكم بحذافيره.

يَعِدُ بتحسين الخدمات وتقديمها للمواطن على طبق من ذهب، ويكرر بلا هوادة: "الكهرباء ستغطي جميع مناطق العراق، ستعمل على مدار 24 ساعة، وسنزيد الإنتاج حتى نصدرها إلى الخارج". تصفق له الأبواق الإعلامية المأجورة، ويغري الناس ببرامج ظاهرها الرحمة وباطنها السراب. وما ان تستقر قدماه في مكتبه حتى تتبخر الوعود، ويتبدد الكلام في الهواء. فالتخصيصات المرصودة للمشاريع تبتلعها شبكة الفساد المتجذرة في جسد الدولة، الشبكة المتوارثة رئيسا من آخر، تحميها تحالفات معقدة بين مافيات المال والسياسة.

هذه الطغمة تعرف جيداً كيف تحوّل المال العام إلى ملكيات خاصة، وكيف تبيع الفشل للشعب على أنه قدر لا فكاك منه.

ينسى المتنفذ خطاباته الوطنية التي تغنّى فيها بحرية التعبير وحق الاحتجاج، ويتنكر لشعاراته السابقة عن دعم حرية التعبير والتفكير. بالأمس كان يجاهر زيفا بنقد أدوات العسف التي تستخدم لقمع الاحتجاجات، واليوم يستخدمها بدم بارد ضد من يعارضه.

ومع مرور الوقت، ينشغل بفكرة إعادة إنتاج نفسه عبر الظفر بولاية ثانية.

وبما أن الطريق مرسوم سلفاً على يد من سبقوه، يبدأ باستثمار مؤسسات الدولة كافة لخدمة مشروعه الشخصي. تُوزع المشاريع على المقربين منه، وتُمنح العطاءات بسخاء لمن يضمن له الولاء. يشتري الضمائر بالأموال المنهوبة، ويشتري الأصوات برشى انتخابية ووعود جديدة تُضاف إلى سجل الخداع القديم.

الإعلام يُشغّل لتلميع صورته، والساحات تُنظَّف من أي صوت معارض، ليُفتح الطريق أمامه لحصد مقاعد انتخابية تسبّح بحمده وتمنحه شرعية زائفة.

هكذا تُختزل الدولة إلى ماكينة انتخابية تخدم بقاء الفاسد، فيما يبقى الشعب يدفع الفاتورة من قوته وكرامته ومستقبله.

ولإحكام قبضته على الحكم، يتغاضى المتنفذ عن السلاح المنفلت، بل قد يكون هو من يوزعه على رؤساء العشائر، مانحاً إجازات حمل السلاح بسخاء لتأمين شبكات ولاء تحميه ساعة الحاجة.

أما العامل الخارجي فيُفتح له الباب ليمارس نفوذه كما يشاء: تُبرم الاتفاقيات المذلة، وتُمرر الصفقات التي تنتهك السيادة، مقابل صمت القوى الخارجية على فساده واستبداده.

السيادة تصبح ورقة مساومة، والوطن يُختزل في كرسي.

هكذا ترسخ هذا السياق المريض للوصول إلى السلطة، وهكذا تُكرس منهجية حكم اقتصادي–اجتماعي، حفرت فجوة هائلة بين قلة راكمت المليارات من اقتصاديات الفساد، وملايين دفعتها السياسات نفسها إلى الفقر والعشوائيات وانعدام الخدمات. ملايين تعيش في بيوت من صفيح، تنتظر قطرة ماء وكهرباء مقطوعة، فيما تتكدس الثروات في قصور محصنة خلف جدران عالية.

وما لم يدركه هؤلاء أن الشعب، وإن صبر طويلاً وتحمل كثيراً، فإنه في اللحظة الحاسمة سينزل إلى الشوارع مطالباً بكرامته وحقوقه، ومدافعاً عن المال العام الذي نُهب أمام عينيه.

تلك اللحظة آتية لا محالة مهما حاولوا إبعادها، لأن صبر الفقراء ليس ضعفاً، وإنما هو جمر تحت الرماد ينتظر من ينفخ فيه ليلتهب!

علق هنا