بغداد- العراق اليوم:
«هو الناصر الذي حارب الفرنجة، وحرر القدس من أيدي الصليبيين، وأسس الدولة الأيوبية التي وحدت مصر والشام والحجاز» ... هذه هي صورة صلاح الدين الأيوبي، إلا قلة قليلة، ترفض أن تجعله في هذه المرتبة وتنظر إلى تاريخه نظرة نقدية.
اليكم الوجه الآخر لصلاح الدين، وهو الوجه الذي رسمه عدد من المؤرخين العرب.
في عام 1995، صدر عن دار «الجديد اللبنانية» كتاب «صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين» للكاتب حسن الأمين، وهو الكتاب الذي اعتمد فيه على كتاب «الفتح القسي في الفتح القدسي»، للعماد الأصفهاني، أحد المُشاركين في «جماعة الإعلام» الذي كان يصحبهم «صلاح الدين» في تنقلاته ليُذيعوا على الناس أخباره، وكل ما يخص شؤون الحُكم.
تحت عنوان «مع الناصر العباسي»، يقول «الأمين»، إن «(صلاح الدين) عقب انتصاره في معركة حطين، وتحرير القدس، رفض طلب الخليفة الناصر، بإرسال جيشه، للمشاركة في تحرير فلسطين كاملة، ونشر الرسائل التي بعثها (الناصر) إلى (صلاح الدين)» نقلًا عن كتاب «الأصفهاني.»
أما عن سبب رفض «صلاح الدين» الاتحاد مع جيش «الناصر» لتحرير فلسطين، يقول «الأمين»: «صلاح الدين أدرك أنه في حال تحرير فلسطين كاملة، ستصبح ولاية خاضعة للخلافة، وبالتالي سيصبح هو الآخر أحد الولاة التابعين للخليفة».
ويضيف الكاتب: «عقب رفض (صلاح الدين) طلب الخليفة (الناصر)، أرسل له الأخير رسالة شديدة اللهجة، عنفه فيها، فاستشعر (صلاح الدين) خطر الرسالة، وقرر التمرد على الخليفة، ومحاربة جيشه حال إرساله، ومهّد لهذا القرار باستشارة من حوله، لتحمسيهم على قتال جيش الخليفة، أما الخليفة من جانبه، أصر على إرسال جيشه لتحرير فلسطين».
ويتابع «الأمين»: «بدأ «صلاح الدين يُمهد للصلح مع الصليبيين، والتسليم لما يحتلونه من أرض الوطن، لأنه خشي أن يُرسل الخليفة جيوشه إلى فلسطين، ولكي يتفرغ هو لها، فلابد من إنهاء حالة الحرب مع الصليبيين، فأرسل أخوه (العادل) للاتصال بالصليبيين، وفي نفس الوقت كان يُرسل رسائل إلى الخليفة يطمئنه فيها بأنه لم يستسلم للصليبيين».
وذكر «الأصفهاني» في كتابه: «يوم الجمعة 18 شوال، ضرب الملك العادل بقرب اليزك، لأجل ملك الإنجليز ثلاث خيام وأعد فيها كل ما يراد من فاكهة وحلاوة وطعام، وحضر الأخير، وطالت بينهما المحادثات، ودامت المناقشة، ثم افترقا بعد الاتفاق». وانتهت المفاوضات بالاستسلام الكامل للصليبيين، وكان السبب الرئيسي هو أن «صلاح الدين» كان بحاجه لهم لمقاومة جيش الخلافة، إذا أصر «الناصر» على إرساله، حسب «الأصفهاني».
يقول الدكتور حسين مؤنس، أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة، في هذا الشأن: «تنازل صلاح الدين للصليبيين عن جزء من الساحل يمتد من صور إلى حيفا، رغم أنه كان في حالة عظيمة من الانتصار والقوة والتقدم.»
ويضيف: «بعدما علم الخليفة صلح (صلاح الدين) مع الصليبيين، والهدف الحقيقي من ورائه، تراجع عن فكرة إرسال جيشه إلى فلسطين، خوفًا من الدخول في حرب أهلية إسلامية، يتعاون فيها الصليبيون مع المسلمين ضد فريق آخر من المسلمين».
ويقول «الأمين»: «لو تعاون صلاح الدين مع الخليفة الناصر، لتم توحيد البلاد العربية في حكم واحد، يضم ما في حكم صلاح الدين الواصل إلى اليمن، وما في حكم الخلافة العباسية، ومن وراء البلاد العربية، العالم الإسلامي الذي يخضع لسيادة معنوية للخيفة في بغداد، لكن صلاح الدين أضاع كل ذلك ليظل مستقلًا بما في يده من بلاد».
بحسب الكتاب نفسه «صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين»، فإن «صلاح الدين اعتبر أن البلاد التي يحكمها ملكًا له، يملكها كما يملك القرى والمزارع، لذلك قسمها على ورثته».
ونقل الكاتب عن «ابن كثير» طريقة التقسيم، قائلًا: «ذهبت مصر لولده العزيز عماد الدين أبو الفتح، ودمشق وما حولها لولده نور الدين علي، وهو أكبر أولاده، وحلب لولده الظاهر غازي غياث الدين، والكرك والشوبك وبلاد جعبر وبلدان كثيرة قاطع الفرات لأخيه العادل، وحماه لابن أخيه الملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر، واليمن بمعاقله لأخيه ظهير الدين سيف الإسلام، وحمص لأسد الدين بن سيركوه بن ناصر الدين بن محمد».
ويقول «ابن كثير»: «شرعت الأمور بعد موت صلاح الدين تضطرب وتختلف في جميع الممالك».
وفي هذا الشأن يقول أيضًا المؤرخ حسين مونس: «قسم صلاح الدين الامبراطورية ممالك بين أولاده وأخوته وأبناء أخويه، كأنها ضيعة يملكها، لا وطنًا عربيًا إسلاميًا ضخمًا يملكه مواطنوه».
ويقول المقريزي أيضًا: «ورثة صلاح الدين استعانوا على بعض بالصليبيين، وأعادوا البلاد إليهم، حتى القدس استردها الصليبيون بسببهم».
قال الكاتب تقي الدين المقريزي، في كتابه «خطط المقريزي»: «كان هناك عدد كبير من الأهرامات في منطقة الجيزة، هدمها صلاح الدين بأكملها وأخذ حجارتها ليبنى بها قلعته المعروفة باسمه تحت سفح جبل المقطم، والسور المحيط بالقاهرة، ولم يتبق منها سوى أعظمها والمعروفة حاليًا باسم هرم خوفو، وهرم خفرع، وهرم منقرع، وهي التي لم يقو الزمن ولا صلاح الدين على تدميرها».
في الواقعة نفسها، يُشير عبد اللطيف بن يوسف البغدادي في كتابه «الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة بأرض مصر» لى حدث تاريخي فريد في عهد صلاح الدين الأيوبي، وهو من أبشع محاولات هدم الآثار، قائلًا: «هدم قاراقوش وكان وزيرا لصلاح الدين عددًا من الأهرام الصغيرة، وبنى بحجارتها قلعة القاهرة وأسوار عكا والقناطر الخيرية».
وأضاف «البغدادي» في كتابه: «الملك العزيز عثمان بن يوسف، وهو خليفة صلاح الدين حاول هدم الأهرام كلها عام 1193، فبدأ بالهرم الصغير، فأوفد إليه النقابين والحجارين، وجماعة من عظماء دولته وأمراء مملكته، وأمرهم بهدمه ووكلهم بخرابه، فخيموا عندها، وحشروا عليها الرجال ووفروا عليهم النفقات، وأقاموا نحو 8 أشهر بخيلهم يهدمون كل يوم بعد بذل الجهد، واستفراغ الوسع الحجر والحجرين».
وفي السياق نفسه، أجمع عدد كبير من أساتذة التاريخ والآثار على أن «الأيوبي حرق كتب الفاطميين، وتحديدًا مكتبة (دار الحكمة) التي كانت تحوي عشرات الوثائق والمخطوطات الهامة التي كان من شأنها أن تؤرخ بشكل أفضل لتاريخهم، ونجح في محو هذا التاريخ تماما من أذهان المصريين»، جاء ذلك في ندوة عقدتها لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة في ديسمبر 2010، وفقا لصحيفة «اليوم السابع».
وشارك في الندوة، حسبما ذكرت الصحيفة، محمود مرسي، أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآثار جامعة القاهرة، وزبيدة عطا الله أستاذة العصور الوسطى بكلية الآداب جامعة حلوان، ومحمود إسماعيل أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب بجامعة عين شمس وأدارها الدكتور حسنين ربيع.
ونقلت الصحيفة عن «إسماعيل» قوله، إن « صلاح الدين الأيوبى أكثر من اضطهد الفاطميين عندما قضى على دولتهم، من أجل دولته الوليدة»، مضيفًا أنه «أحرق أعظم مكتبة أنشأها الفاطميون، وهى مكتبة دار الحكمة التي كانت تضم الكثير من المخطوطات الدالة على فترتهم، وكان من شأن هذه المخطوطات أن تعرفنا أكثر بعصرهم».
وفي كتاب «التطور العمراني لمدينة القاهرة منذ نشأتها وحتى الآن» للدكتور أيمن فؤاد السيد، 1997، ص 34، قال: «صلاح الدين الأيوبي بعد أن استولى على مقاليد الأمور في مصر بعد ذلك بنحو قرن من الزمان، نقل القاهرة عما كانت عليه من الصيانة وجعلها مبتذلة لسكن العامة والجمهور، وحط من مقدار قصور الخلافة وأسكن ذويه وأمراءه في بعضها، وتهدم بعضها الآخر وأزيلت معالمه وتغيرت معاهده، فصارت خططاً وحارات وشوارع ومسالك وأزقة» على حد قول المقريزي.
وأضاف الكتاب: «لم يكتف صلاح الدين فقط بذلك، بل استولى على ما في القصور من خزائن ودواوين وأموال ونفائس، وأباح بيع كل ما وجد في القصور، حتى أنه باع كل ما خرج منها لمدة 10 سنين، كما اقطع أمراءه وخواصه ما كان للفاطميين من دور ورباع».
وتابع: «فقدت القاهرة مكانتها كمركز للحكم وأخذت الأنشطة التجارية والحرفية تتسرب إليها وتنتشر في موضع القصور الفاطمية حول الشارع الأعظم أو قصبة القاهرة. وتحول مركز المدينة القريب من الجامع الأزهر إلى منطقة تجارية».
واستكمل: «وأدت التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها القاهرة في العصر الأيوبي على إعادة تشكيل النسيج العمراني للمدينة، فشهدت هذه المنطقة مولد العديد من المدارس السنية التي بدأت في العصر الأيوبي (السيوفية والكاملية والصالحية) وازدهرت في العصر المماليكي، والعديد من الأسواق النوعية حتى أصبح موضع بين القصرين سوقاً مبتذلاً بعد ما كان ملاذاً مبجلاً»، كما يقول «المقريزي».
وقال «المقريزي» أيضًا في كتابه «خطط المقريزي»: «السلطان صلاح الدين استولى على ما بالجامع الأزهر من فضة قدر ثمنها بـ5 آلاف درهم ثم استولى على كل ما وقعت عليه يداه من فضة في بقية المساجد وبقي المسجد الأزهر معطلا لا تقام فيه صلاة الجمعة مائة عام ولا تلقى فيه دروس العلم من باب أولى حتى أعادها الملك الظاهر بيبرس.»
وقال منصور سرحان، مدير إدارة المكتبات العامة في البحرين: «حرق الكتب وتدمير المكتبات يعد من بين أهم الكوارث التي واجهت الحضارة العربية الإسلامية منذ تاريخها الطويل وحتى يومنا هذا، كما أنها سبب رئيسي لتخلف الأمة العربية عن النهضة العلمية وسر ضعفها، وجعلها نهباً للمستعمر الأجنبي»، وفقا لصحيفة «الوسط» البحرينية.
وأضاف «سرحان» في محاضرة ألقاها عام 2007: «عندما تولى صلاح الدين الأيوبي حكم مصر قضى على البقية الباقية من المكتبة وذلك إما بتوزيعها على رجاله وإما بعرضها للبيع بأي ثمن كان.
وأشار إلى أن «القلقشندي» تحدث عن نهاية هذه المكتبة بقوله: «وكانت من أعظم الخزائن، وأكثرها جمعاً للكتب النفيسة من جميع العلوم، ولم تزل على ذلك إلى أن انقرضت دولتهم (أي دولة الخلفاء الفاطميين) بموت العاضد آخر خلفائهم، واستيلاء السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على المملكة بعدهم، فاشترى القاضي الفاضل أكثر كتب هذه الخزانة، ووقفها بمدرسته الفاضلية بدرب ملوخيا بالقاهرة، فبقيت فيها إلى أن استولت عليها الأيدي فلم يبق منها إلا القليل».
وتابع «سرحان» في محاضرته: «العديد من المصادر التاريخية تؤكد أن صلاح الدين الأيوبي كان سبباً في القضاء على هذه المكتبة، حيث يذكر (المقريزي) أنه في عهد صلاح الدين قضي على خزائن مكتبات الفاطميين وتشتت ما تبقى من كتبها بيعاً على تجار الكتب وعطاء لبعض العلماء والقضاة فضلاً عما أهداه صلاح الدين للمقربين إليه، وحدد لبيع الكتب يومين كل أسبوع واستمر 10 سنوات تولى تجار الكتب والدلالون مهمة البيع تحت إمرة قراقوش.»