بغداد- العراق اليوم:
افتتاحية جريدة الحقيقة
فالح حسون الدراجي
قبل خمسين عاماً، كان يزورني في بيتي بقطاع 43 بمدينة الثورة، عدد من الشباب اليافعين .. وكنت أولي اهتماماً خاصاً بثلاثة فتيان منهم، حتى تمكنت من كسبهم آنذاك لصفوف الحزب الشيوعي العراقي. وللأمانة فإن الزميل العزيز علاء الماجد السكرتير الحالي لتحرير جريدة الحقيقة، والمحرر البارز في جريدة طريق الشعب، كان أحد هؤلاء الفتيان الثلاثة .. وهنا أتذكر أن أحدهم سألني سؤالاً لم أكن ارغب بالجواب عليه وقتها لعدة أسباب، والسؤال كان: لماذا يحب الشيوعيون العراقيون، الشهيد سلام عادل أكثر من غيره، ولماذا يمنحونه امتيازات وجدانية وعاطفية استثنائية اكثر من الشهداء الآخرين، رغم أن الشهداء متساوون بالعنوان والقيمة والمكانة والتقييم. واليوم وبعد نصف قرن، أستطيع أن أجيب على ذلك السؤال الصعب بكل مافي الجواب من صراحة ومرارة أيضاً، وأقول مؤكداً بضرس قاطع، إننا كنا ولم نزل نحب الشهيد سلام عادل بشكل مميز جداً جداً وإن لهذا الحب أسباباً عديدة حتماً، ربما لا تكمن في باقة مواهبه الرياضية والفنية والتدريسية فقط، ولا حتى في هيئته وأناقته وروعته وجماله ودماثة اخلاقه، بل ولا بسبب الدور الكبير الذي لعبه في توحيد صفوف الحزب، وقيادته الفذة في أخطر مرحلة من مرحلة التاريخ الوطني، إنما تكمن برأيي الشخصي، في الجواب العظيم الذي كتبه بدمه في امتحان الشرف والأمانة والبسالة يوم ١٩ شباط العام ١٩٦٣، والذي ترجمه بصموده الأسطوري وباستشهاده الدرامي التراجيدي الذي لا مثيل أو شبيه له في قصص التاريخ الإنساني إلا القليل جداً ..!. وهنا يجب القول إن ثمة حكاية موجعة تقف خلف هذا الحب وهذا التبجيل الاستثنائي الذي يحظى به سلام عادل.. والحكاية تبدأ من اعتقال القيادي البارز بالحزب الشيوعي، المدعو هادي هاشم الأعظمي، المعروف بصموده أمام أجهزة التحقيق في العهد الملكي البائد، لكن هادي الأعظمي انهار للأسف بشكل غريب وعجيب أمام انقلابيي البعث في شباط الأسود، حتى يقال إنه ذهب بنفسه مستسلماً إلى أمين حزب البعث، المجرم علي صالح السعدي، عارضاً عليه خدماته وتعاونه، خاصة وأنه الوحيد الذي يعرف الأوكار السرية والبيوت الحزبية القيادية جميعاً، بما فيها بيت سكرتير الحزب سلام عادل، وفعلاً راح هادي (الأعظمي) يرشد أفراد الحرس القومي على بيوت الحزب السرية واحداً واحداً، ومن بينها بيت سلام عادل، الذي لم يكن أحد يعرفه سوى الأعظمي. لقد كان اعتقال سلام عادل ورفاقه في قيادة الحزب كارثة ونكسة معنوية وبنيوية كبيرة، وكان من الطبيعي ان يحدث ارتباك كبير في صفوف القواعد الشيوعية والجماهير الشعبية بسبب ذلك. وليس سراً القول إن انهيار هادي الأعظمي قد تسبب بانهيارات قيادية وقاعدية واسعة، بحيث بات التنظيم في دائرة الخطر الشديد، وقد يتهدم بناء الحزب برمته إذا استمرّت حالة الانهيار هذه.. وهنا يأتي دور القائد الفذ، الذي لا يقوم بإنقاذ بناء الحزب ومنعه من السقوط إلى الهاوية فقط، إنما يقوم بالحفاظ على هيبة وسمعة هذا البناء الوطني العظيم، فكان سلام عادل أهلاً لهذا الدور، وجديراً بهذه المسؤولية التاريخية والأخلاقية، سواء بصموده واستشهاده الاسطوري وهو يلفظ انفاسه الأخيرة، ويبصق بوجه المجرم علي صالح السعدي، جواباً على طلبه بكشف أسماء الخط الحزبي العسكري مقابل حياته وحريته.. أو بهدوئه العجيب ورباطة جأشه التي أذهلت قتلته انفسهم، إذ لايمكن لرجل يمضي نحو نهايته وهو بهذا الهدوء وهذه الصلابة العجيبة !. لقد استشهد سلام عادل وهو يمسك لسانه تماماً عن الكلام، مكتفياً بابتسامة شفيفة معبرة بوجه جلاديه ماضياً إلى أبديته دون أن يعترف على أي اسم من مئات الأسماء التي يحتفظ بها في ذمته، تصوروا أن رجلاً يتعرض لتعذيب شديد تقشعر له الأبدان، حتى يشوّه جسده، بحيث لم يعد ممكناً التعرف عليه ثم تفقأ عيناه والدماء تنزف منهما ومن أذنيه أيضاً، ويتدلى اللحم من يديه المقطوعتين.. ولم يكتف السفلة بذلك، إنما قاموا بتكسير أضلاعه وعظامه، وتقطيع عضلات ساقيه وأصابع يديه بآلة جارحة، ورغم كل هذه الفظاعات، كان سلام هادئاً، صلباً، صامتاً، لم يرجُ أحداً من قاتليه ولم يتوسل بمعذبيه، بل ولم يصرخ من الألم رغم شدته. والغريب في الأمر ان صورة سلام عادل البطولية هذه، نقلت من قبل المجرمين الذين أشرفوا على تعذيبه وليس من قبل غيرهم، وقد جاءت هذه الشهادات في بعض مذكراتهم او عبر مقابلاتهم الصحفية.. !! وبعد استشهاد سلام عادل تحت التعذيب، ذاع خبر استشهاده في جميع زنازين المعتقل رغم كل السرية والتكتم الشديدين، بل وأن الخبر تسرب إلى خارج أسوار وزنزانات قصر النهاية أيضاً، فكان (موت) سلام عادل بهذه الصورة السريالية بمثابة ( حياة ) أخرى للحزب. لذلك وصف صموده واستشهاده بالسد العالي الذي أوقف حالة الانحدار المريع في صفوف القيادات والكوادر الحزبية الشيوعية، ووصف دمه بالوقود الذي أشعل الضوء في نفق (شباط المظلم) وما بعد أيام شباط الأسود.. واقتداءً بصمود سلام عادل، صمد جميع الرفاق الذين كانوا معه في المعتقل، وصمد أيضاً كل الرفاق الذين اعتقلوا بعد استشهاده بخمسة شهور ، أي بعد حركة حسن سريع، فصار صمود سلام عنواناً ورمزاً ومثالاً يضرب أمام أجيال المناضلين الشيوعيين، بحيث أصبح على الشيوعي المعتقل في سجون الطغاة المختلفة، أن يضع صورة صمود سلام عادل أمام عينيه دائماً .. لقد بقيت حقيقة أخيرة يجب ذكرها في الخاتمة مفادها، أن حركة حسن سريع الباسلة كانت واحدة من نتائج صمود سلام عادل، إذ لولا صموده لما كانت هناك حركة ثورية عظيمة يقودها حسن سريع، ولا كان هناك جنود شيوعيون ثوار في معسكر الرشيد أو في غيره، بل ولا كان هناك حزب شيوعي !! لأن أي اعتراف من سلام عادل حول أعضاء التنظيم العسكري، كان سيطيح بالشيوعيين العسكريين والمدنيين الذين دفع سلام حياته لأجل سلامة حياتهم، بدليل أن القيادي البعثي حازم جواد طلب من قائد حزب البعث علي صالح السعدي وقتها، إيقاف التعذيب والعنف في التحقيق مع الشيوعيين، والتوقف عن طلب الاعترافات منهم ..! ولما سأله السعدي عن السبب..قال له حازم جواد: إن الوضع اختلف الآن، و لا أعتقد أنك ستحصل بعد اليوم على اعتراف من أي شيوعي، لأن صمود وموت سلام عادل بهذه الطريقة، قد وضعهم في حال حرج.. إذ من سيجرؤ منهم بعد اليوم على الاعتراف، وأمامه صورة سلام عادل مثقوب العينين ومقطع الأطراف، ومهشم الأضلاع، دون أن يعترف لنا أو يضعف ؟! أخيراً، أتمنى أن يقرأ ذلك الفتى جوابي حول سؤاله الصعب ذاك، رغم تأخري خمسين عاماً عن الجواب !
رابط أغنية الشهيد سلام عادل
*
اضافة التعليق