بغداد- العراق اليوم:
اكثر اشكاليات العمل الأمني في العراق بعد 2003 انه عمل انفعالي، يعتمد على ردة الفعل، لا الفعل ذاته، لذا تجده ارتجالياً، فيدفع ثمنه المواطن، ورجل الأمن الذي يضحي بحياته، وهو ينفذ " ردة الفعل" التي تطلبها منه مراجعه العليا. وكانت كل الجهات المعنية بالعمل الأمني، وجميع الخبراء والمتابعين يطالبون على الدوام بضرورة تبني نظرية أخرى للعمل الأمني، ويقصدون بها نظرية العمل الاستباقي الذي يضرب الأرهاب ويكافح مصادر الجريمة قبل وقوعهما، ولكن هذه المطالب كانت تذهب سدىً، في ظل تسييس رهيب للملف الأمني، وفقدان المؤسسة الأمنية العراقية، لقيادة واعية، وحريصة على البلاد وشعبها. وبقينا نكتب، ونطالب، ونناشد، وننتقد، ولم تتوقف الصحافة العراقية عن اداء دورها في تعزيز العمل الأيجابي ودعمه والاشادة به، وفضح وكشف السلبي منه، ومحاولة اصلاحه عبر التنبيه اليه، ولكن هذا لم يكن يرضي الكثيرين ممن تصدوا لهذه المسؤولية الهامة، فكانت ردود الافعال قوية تجاه من يقول ذلك. الا أن المهم في الأمر، وصول رسائلنا الى اصحاب الشأن، وبالمقابل فقد كان وعي المواطن اسبق بكثير من وعي الذين تولوا مناصب في ادارة هذا الملف، أو الذين تعاملوا معه. وبمجيء السيد قاسم الاعرجي وزيراً للداخلية بعد تكليفه من قبل رئيس الحكومة العراقية الدكتور حيدر العبادي، تغيرت بوصلة العمل الأمني بشكل واضح جداً، وهذا ما دفعنا للكتابة، وللإشارة اليه بإصبع البنان. ان أبسط متابعة لأنشطة هذا الوزير الذي لا يكل ولا يمل في متابعة كل شاردة وواردة بهذا الملف الكبير والواسع، ستدعم رأينا، وتؤكد حتماً مصداقية ما نذهب اليه في تقريرنا هذا، وستدحض احتمالية المجاملة، أو المديح غير المستحق لاسمح الله. لقد قمنا بمراجعة "سيرة " الأعرجي الوزارية، فوجدنا ان الرجل قد سار منذ اليوم الأول لتنصيبه حتى هذه اللحظة على طريق التخلص من نظرية الأمن المنفعل، وردود الافعال السريعة على ما تحدث من خروقات وجرائم، واختار التوجه صوب منهج الأمن المجتمعي القائم على نظرية الفعل الاستباقي، وتفعيل أدوات غير شرطوية، وغير أمنية محترفة في بناء هذه المنظومة. بمعنى أن الاعرجي يعتقد -وهو صائب في ذلك- أن أي دولة في العالم مهما بلغت قوتها العسكرية والأمنية، ومهما وسعت جهازها الشرطوي والأمني، لن تقدر على تحقيق الأمن التام، مالم توظف كل عناصر تحقيقه، فما فائدة نشر مئات الاف الشرطيين في الشوارع والأزقة والحارات ما دام المواطن لا يتعاون معهم، أو أنه يمنع وصولهم الى الهدف المراد من وراء انتشارهم هذا، ونقصد به : تحقيق الأمن ومنع وقوع الجرائم والعمليات الأرهابية. وما معنى أن تنفق شهرياً مليارات الدولارات من خزينة الدولة على جهاز أمني يصل عدد منتسبيه الى مليون فرد تقريباً، بينما الصلات مع الجهة المستهدفة مقطوعة، والتعاون معدوم بينهما. يقيناً ان العمل سيكون في هذه الحالة أجوفاً، وفارغاً، وهنا لن يجد رجل الأمن سوى الرد الانفعالي على ما يحدث من افعال ارهابية، واجرامية، وليس كما هو مقتضى ومفترض بتوفر موانع للجريمة، والارهاب مثلما هو في دول العالم. لذلك التفت الاعرجي كما يبدو بعمق لهذه المسألة، فإتجه منذ اول ايامه الوزارية، لما يمكن تسميته بـ " أنسنة العمل الأمني "، بمعنى تعزيز الجانب الانساني في العمل الأمني، ومحاولة نزع الصورة السلبية المزروعة في عقل المواطن عن رجل الأمن العنيف، القاسي، والمكنى مفهومياً باداة السلطة القامعة، أو برجل الأمن الذي يتجسس عليه لخنقه وحبس انفاسه، وكذلك نزع فكرة رجل الأمن الطائفي أو العنصري أو المتسلط الذي يحمل في خاصرته مسدسًا يصوبه الى رأس المواطن، لا الى المجرمين والقتلة والارهابين. نعم، لقد عمل الاعرجي بجد وهمة على محو هذه الصورة الموروثة، وهو لعمري عمل كبير وجبار، يحتاج فيه الى تعاون كل جهد وطني سواء من الصحافة والاعلام، او منظمات المجتمع المدني، او من قادة الرأي والمجتمع. وعليه، فإن هذا التحول في عقلية الداخلية- الوزارة والادارة - قد انعكس ايجاباً على الشارع العراقي، الذي بدأ يعي ويعرف أن وزير الداخلية هو مواطن عراقي مثله، مكلف بحماية كل فرد في الوطن، وهو انسان قبل أن يكون قائداً لقوة أمنية كبيرة، وأن مكانه الحقيقي الشارع والازقة، لا حصون مشيدة، ولا خلف السواتر والمفارز الأمنية، لذا تجد الأعرجي يتجول في شوارع بغداد والكوت والبصرة والرمادي وطوزخورماتو والموصل المحررة، والفلوجة الملتهبة لوحده لا يحمل سوى ابتسامته التي تبعث الأمن والطمأنينة والشعور بالانشراح من لدن المواطن الذي صار يدنو من رجل الأمن، ويتحدث معه كصديق وشريك في صناعة الأمن المشترك، وهذا نجاح ملموس وواقع يقر به الصديق والعدو على حد سواء، وليس هو مجرد امنيات أو وقائع غير حقيقية، ومن شاء التأكد، فما عليه سوى زيارة ارشيف صفحة الوزير على الفيسبوك أو اي موقع للتواصل الاجتماعي. ليرى أين كان الوزير أمس، وأين ذهب في الاسبوع الماضي، والاسبوع الذي سبقه.. وطبعاً فإن الوزير لم يذهب أمس للفلوجة من اجل الدعاية لحملته الانتخابية كما يقول أحد النواب المرضى، لسبب بسيط بل هو بسبط جداً: أن الوزير الاعرجي لن يرشح عن مدينة الفلوجة، ولا عن مدينة طوزخورماتو، ولا عن بيجي، أو أم الربيعين .. وللحديث صلة بأذن الله..
*
اضافة التعليق