بغداد- العراق اليوم:
محمد صاحب الدراجي وزير الصناعة السابق
فيما كنت اتجول بين باعة الكتب في شارع المتنبي بحثاً عن كتاب مختلف ، اثار استغرابي بائع كتب وهو يقول بصوت مرتفع:
"كتاب بالف دينار، واذا الغلاف مقوى بالفين ونص" في اشارة واضحة الى تراجع المضمون، وهزيمة الكتاب.
ومكانة المؤلف الذي هبط كتابه الى الالف دينار !
فوجئت ايضا ان جميع عناوين الكتب المبعثرة امامي كانت كتباً دينية على الاطلاق والبعض منها على درجة كبيرة من الاهمية الفكرية والمعرفية، فبادرت نحو بائع الكتب اسأله عن السبب الكامن وراء تدني سعر بضاعته ؟فأجابني بأن قيمة المادة المصنوع منها الغلاف المقوى هي التي رفعت سعر الغلاف، وقللت اهمية الكتاب.
ثم رد علي بعد برهة قائلاً:
اذا تريد شيل بالفين!.
سالته مرة اخرى عن سبب هذا التدني الكبير في سعر الكتاب الديني بموازاة ارتفاع اسعار الكتب الاخرى .
رد علي وهو (مشغول بترتيب الكتب المبعثرة على الرصيف):
اذهب واسال صاحب المكتبة داخل تلك البناية، فذهبت الى الرجل وسالته ذات السؤال فقال لي:
(استاذ احنه د نصفي هاي الكتب لان محد بحالهن)!
نزلت عبارته على راسي نزول اعصار ايرما الذي يضرب السواحل الامريكية ويدمر مدنها وينشر الفوضى فيها، فسافرت بالذهن الى فترة التسعينات من القرن الماضي وكيف كنا نجازف لاستنساخ الكتب الدينية، ونخاطر بانفسنا من اجل اقتناء كتاب منها قد لا يشكل اهمية معرفية كبيرة كالتي نراها اليوم في بعض المؤلفات الفكرية ذات المعرفة العالية، لكننا كنا نقاتل من اجل اقتنائها بمساعدة بعض الثقاة من باعة الكتب الاسلامية، حيث كنا ندفع اليهم اضعاف السعر الذي ندفعه اليوم للكتاب الديني، مع الاخذ بالاعتبار قيمة دينار التسعينات عن قيمته الراهنة، اذ يقترب الدينار الحالي من مثال كتاب اليوم عن غلافه المقوى!.
السؤال الملح هو:
لماذا اختلف الواقع الاجتماعي وتلاشى اقبال الناس على شراء الكتب الدينية هذه الأيام، بحيث باتت ذهنية القارئ تشتهي الغلاف المقوى دون الاهتمام بالمضمون عن واقع اجتماعي كان يتحرك على شراء الكتب الدينية التي كانت تعتمد آلية الورق المستنسخ في تصريف المنتوج الفكري في زمن الاستبداد، مع ان السلطات العراقية في السابق كانت تلاحق هذا اللون من الكتب المستنسخة، ولدي قائمة بشهداء الكتب المستنسخة ذهبوا ضحية اخبار امني او وشاية عابرة عن وجود كتب مستنسخة لديهم؟!.
لماذا يتدنى الكتاب الديني المحمول اليوم على كتائب من الشهداء وجهود كبيرة بذلت من قبل قادة كبار في المشروع الاسلامي المعاصر، ومفكرين كبار ليصل سعره الى اقل من كيلو الطماطم، اما اذا قورن سعره بالفواكه الطازجة المستوردة من الجوار العراقي فسيبرز الفرق الشاسع بين غلاء المستورد، وتدني الديني؟.
الاجابة على هذا السؤال ستفتح مصاريع النقاش المعرفي والفكري المحتدم تاريخياً بين انصار المدرستين الاسلامية واللا اسلامية، واتباعهما.
لقد كان كل ممنوع مرغوباً في زمن الدكتاتورية السابقة، وقد حدث هذا الاقبال الكبير على الكتاب الديني حينها مع رغبة شعبية عارمة، ورغبة نخب ثقافية عراقية على معرفة الاسلام وتطبيقاته الاجتماعية والسياسية والفكرية من خلال مجمل ماقدمته الحركة الفكرية الاسلامية في العراق من خلال الامام محمد باقر الصدر، والمودودي في الباكستان ومحمد تقي النبهان وسعيد حوا في سوريا ومجمل كتابات سيد قطب وحسن البنا في مصر .
وفي المقابل حصل فتور وابتعاد عن جو الثقافة الاسلامية ومعرفة المزيد عن النظرية الاسلامية في الحياة بعد سقوط النظام، وحالة الاشباع التي حصلت في الطبقة المثقفة، مضافاً اليها ظاهرة الغلو والمبالغة في فرض "الثقافة الاسلامية" على الكثير من شرائح المجتمع العراقي مع انني اعتقد ان ماساد من فترات، فرضت فيه هذه الممارسات، لم يكن بعنوان الثقافة الاسلامية، ولا يمت بصلة لها، بل كانت ممارسات اتخذت من الاسلام ستاراً لتمرير افكارها وقناعتها الدينية المتطرفة، وبضاعة تباع في سوق الشحن الطائفي لاغراض لا تمت للفكر الاسلامي بصلة.
المسالة الاكثر اهمية هنا ان الناس بدات تعزف عن الفكر الاسلامي، وكتابات الفكر الديني بسبب ما قامت به الحركات السياسية من توريط للفكر الاسلامي، بجعله غطاء لها لممارسة السلطة، والنفوذ، والتحكم بادارة المؤسسات، وفشلها في تقديم النموذج الايجابي في ادارة الدولة، واستغلال البعض لهذا الفشل للنيل من الفكر الاسلامي، بحيث بدؤوا بتعبئة المجتمع بان الفشل الحاصل في العراق هو بسبب الاسلام السياسي والفكر الاسلامي (بينما الفشل الحقيقي هو في الشخوص الذين تصدوا لادارة العملية السياسية وجهلهم في مباديء ادارة المؤسسات وقيادة الدولة وليس في اصل الفكر الاسلامي).
لكن للاسف فإن هذه الحركات السياسية قد اتخذت من المشاعر الدينية للمجتمع رافعة انتخابية لها، ولما فشلت في تقديم النموذج الجيد، تولدت حالة من النفور المجتمعي للحالة الاسلامية بسبب هذا الخلط بين المبدأ العام للثقافة الاسلامية والاداء السلبي للمتخذين من الاسلام غطاء سياسياً لهم .
ان هذه الحالة ازعجت الذائقة العراقية كثيراً، واكدت على الارض ان الاسلام الذي يحمله هؤلاء الفاسدون سيعكس مظاهره على بقية مفردات الحركة الفعلية للاسلام، مع ان كل الافعال السيئة والافكار المنحطة التي اشيعت خلال الفترة السابقة كانت افعال اشخاص، ولم تكن فعل الاسلام الحقيقي..
ومن المؤسف ايضاً ان تلك الحركات الاسلاموية اتخذت من الاسلام ستاراً وخيمة وسقفاً لها لتمرير مصالحها، ونزواتها السلطوية، وبحثها عن المال الحرام، وهنا حدث النفور المجتمعي للحالة الاسلامية بعد ابشع مرحلة لاستغلال الاسلام والفكر الاسلامي، والعناوين الاسلامية التي احتلت زمناً طويلاً، مساحات مهمة وكبيرة من مشاعر المسلمين العراقيين مثل الرهان على اهل البيت في الانتخابات البرلمانية، وان من لا ينتخب القائمة الفلانية لن يرضى الله عنه ولا اهل البيت، مع ان اهل البيت لم يتحركوا تاريخياً بقائمة ولم يدعموا قائمة في اطار البيت الاسلامي على مصالح قائمة تحمل نفس التوجهات والافكار الاسلامية التقدمية.
لذلك، وكي نعيد للكتاب الديني اهميته ومكانته المهمة في شارع المتنبي، وشارع الثقافة العراقية عموماً، وللذاكرة العراقية المسلمة خصوصاً، يجب اولاً ان نمارس فصلاً منهجياً بين الفكر الديني وتطبيقاته الرسالية النظيفة، واساليب ادارة الدولة التي تعتمد القانون ونزاهة الفرد وقدرته على تطويع نفسه لخدمة امته وشعبه والابتعاد عن تطويع الدين لخدمة الاغراض السلطوية والسياسية والحزبية الخاصة حيث تنام مدن شيعية على الجوع والفقر والحاجة، وينام قادة شيعة على ريش النعام، وهم يقراون كل صباح سورة الانعام!
والله من وراء القصد
*
اضافة التعليق