بغداد- العراق اليوم:
حتى ثلاثينات القرن الماضي، كان المجتمع العراقي محكوماً بتقاليد وأعراف بالية، وتسوده ثقافة رجعية، أو في أحسن الأحوال تقليدية قديمة، لا شأن لها بروح العالم السائر نحو التطور العلمي، وتعزيز نزعة التجديد في ميادين الحياة كافة.
كان الحراك الاجتماعي متخلفاً في جوهره، او تغيب عنه موضوعة الإنسان كمحور أساس في البناء الاجتماعي، لذا كان هذا الحراك يسير وئيداً نحو تغليب سطوة القيم السالبة لروح التحرر والتحضر.
هذا ليس اتهاماً أبداً، ولا تجن على الواقع، قدر ما هو وصف دقيق، نستشفه من قراءة فاحصة لتلك المرحلة فيما كُتب عنها، لكن هذا الواقع الواقف، كان على موعد مع تغيير دراماتيكي بكل ما للكلمة من أبعاد، بعد ظهور قوى اجتماعية – سياسية جديدة في ذلك المشهد الرتيب، وعملها الدؤوب في تسريع نسق الحياة، والدفع بها نحو افاق ارحب، وفضاءات أحدث .
نعني به حراكاً ولد مع ولادة الحزب الشيوعي العراقي الذي كان و لا يزال أكثر القوى الوطنية التي عرفتها الحياة السياسية، ميلا نحو السير بالحياة العراقية، في دروب التقدم وبث ثقافة البناء الحضاري، عبر تبنيه لنظريات الحياة الحديثة، وتأصيله لتمدين المجتمع، بمعنى تجذير الروح " المدنية" عبر بث خطاب يدعو للتسامح ونبذ التعصب الديني – الطائفي- الاثني.
خطاب يتجاوز القوميات والعصبيات الأولى، لاسيما وان جميع الذين تولوا قيادته ينتمون الى طوائف عراقية مختلفة، فأحدهم مسيحي واثنان من الطائفة الشيعية وواحد من الطائفة السنية وواحد من الصابئة المندائيين، وهذا يؤكد عراقية وتنوعية وتعدد الالوان الوطنية لهذا الحزب العراقي.
لقت اشتغل الحزب بقوة على اسقاط الثقافة الرجعية البدائية، والمصالح الذاتية والضيقة التي تتدثر بجلباب هذه الثقافة، وتختبئ ورائها، لصياغة روح الجهل، وسيادة الفوضى، وعسكرة الفرد العراقي، وتأليه السلطة والمال، بمعنى أوضح ان الحزب الشيوعي العراقي منذ ظهوره الى الآن تحول الى قائد لجبهة مضادة لجبهات رجعية اما هي متخلفة، او عميلة مرتبطة بمشاريع أجنبية تريد ان يبقى العراق غارقاً في أوهام الماضي وتجليات الروح البدائية.
ولأن هذا العرض لا ينتهج نهجاً تاريخيا، في معالجة هذا التضاد، انما اردنا ان نشير فيه الى ان انتاج الشيوعي العراقي لثقافة جديدة في محيطه العراقي، منذ بداياته والى الآن، قد قاد الى نشوء اجيال متعاقبة من العراقيين المؤمنين بروح العصر وثقافته، والمرتبطين بعرى الحداثة الحقيقية القائمة على تسييد الآنسان واحترام عقله.
لقد كان الشيوعي العراقي رايةً عالية في سماء الثقافة العالمية الحديثة، والتي عززها بتبنيه للعلم منهجاً، وللثقافة والفنون في كل حراكه السياسي اساساً، فلم تعرف الساحة العراقية، اهتماماً بل وتبني للثقافة والفنون في تاريخ العراق، كما هو الحال مع مدرسة الشيوعيين العراقيين، الذين كان لهم القدح المعلى في هذا الميدان، ويعود لهم الفضل في تأسيس روح عراقية متحررة وثابة متمردة على التدجين والتجهيل، قادرة على المواجهة الحضارية رغم القمع والعسف الذي طالها.
ولذا فأن قلعة الثقافة الشيوعية، ظلت عصية على مر التقلبات والظروف المحتدمة على السقوط في أتون خطابات العنف او تجييش الجماهير او تحركيهم عاطفياً، بل كانت قلعة المعتصمين والمؤمنين بحق بالاختلاف السلمي، والحوار الحضاري، وصياغة مفاهيم السلم الاجتماعي كنظرية لحل التقاطع، وفك الاشتباك الحاصل بين السلطة السياسية من جهة، او قوى الارتداد الاجتماعي، والقوى المدنية المنادية بالحقوق والواجبات من جهةً ثانية.
لم يعرف لهذا التشكيل الوطني دعوةً الى عنف، أو ممارسة في هذا الاتجاه، رغم كل التزييف الذي مورس في كتابة التاريخ، والمحاولات المشبوهة من قبل السلطات لدفع جماهير الشيوعي العراقي نحو هذه الضفة، ولعل البعض سيشكل هنا وسيذكرنا بحركة الانصار المسلحة مثلاً، التي قادها شيوعيون أشاوس وقاتلوا الدكتاتورية البعثية في جبال واهوار العراق في سبعينات القرن المنصرم، وهذا لا ينكر ابداً، فالشيوعيين يؤمنون ان الحوار سبيل الوصول نحو بناء المجتمع المتكافئ المتعادل في حقوقه وواجباته، وينهجون في سبيل ذلك كل الطرق، حتى لو كان الامر كفاحاً مسلحاً، كفاحآ في سبيل مدنية المجتمع، لا بناء سلطة فوقه، واعتقد هذا فرق شاسع بين الهدفين.
خلاصة هذا الحديث، هو أن الشارع العراقي المتعب الآن من عسكرة طويلة، وصراع دام على مدى عقود متتالية، لا يجد في أي تشكيل على الساحة منفذاً نحو الارتباط بروح الحياة الحديثة، غير الشيوعي العراقي الذي ظل في مشهد سيادة قوى الظلام والتطرف بعد 2003، الاكثر دعوةً وعملاً لنبذ الطائفية والأثنية والقومية، ورفض الاحتراب الوطني والأهلي، والاكثر تمسكاً بنهج السلمية في كل حراكه الداعي للتغيير الايجابي، ورفض التكتل على أسس تضر بمصلحة البلاد العليا، والشعب العراقي.
ان بقاء الشيوعي العراقي على نهجه ليس الا تأصيلاً لكل نضالاته الوطنية، ودلالة واضحة على ان هذا الفصيل الوطني الصميمي، الاكثر وعياً من غيره، والاكثر معرفةً على الساحة في تشخيص علة المشهد السياسي بعد سقوط الديكاتورية، فهو صاحب المبادرة الاولى في الدعوة للتخلص من العسكرة الاجتماعية، والطائفية السياسية، وتجنيب الفئات الاجتماعية خطاب الانقسام الذي يؤدي الى الصدام غير المنتج الا للمآسي والكوارث، وقد سبق الحزب الشيوعي العراقي كل التشكيلات بدعوته الى بناء اطار يتجاوز النزعات البدائية، ويقوم على مبادئ سيادة القانون، واحترام الفرد العراقي، واحترام حقه في الخصوصية والتنوع، والإلحاح في ابعاده عن كل ما يثير افات الماضي التي انبعث من رقادها، وهي تعادي الثقافة والفنون والحياة. وهو ماض بالتأكيد وبالضرورة على نهجه التقدمي المدني، وسيظل ساعياً في هذا الاتجاه حتى تحقيق هذا الهدف، وايقاف مد قوى الظلام في رحاب المجتمع العراقي المتطلع لغد تصنعه ثقافة الحياة، لا ثقافة الموت.
*
اضافة التعليق