مريم .. وزنزانة ( الزمن الجميل ) ..!

بغداد- العراق اليوم:

افتتاحية جريدة الحقيقة 

فالح حسون الدراجي

سؤال يثير الجدل والخلاف أينما قيل، ومتى طرح : هل كان الزمن جميلاً فعلاً ؟! وجوابي كان يثير الجدل اكثر من السؤال نفسه: نعم كان جميلاً بقدر قبحه ..!

فيقولون: كيف كان الزمن جميلاً وقبيحاً في آن واحد؟

فأقول: لقد كان الزمن في ظل السلطة الدكتاتورية، قبيحاً كالحاً، ومراً كالحنظل ذقنا فيه طعم المرارة والأسى والحزن والدموع،  وعانينا فيه من الظلم والقمع والإضطهاد والفقر والذل والتفرقة والتمييز، واكتوينا فيه بنار الحروب والسجون والإعدامات والنفي وفقد أغلى الأحبة.. إذ كيف لا يكون ذلك الزمن قبيحاً وقد توافرت فيه كل أسباب وعناصر القبح .. 

فالدكتاتورية كما معروف عنها منظومة قاتمة قبيحة، لا تمنح الشعوب أية بارقة للأمل، ولا فسحة واحدة للرجاء والحب والجمال، والفرح، وهي حتماً لا تفتح نافذة للحلم، أو باباً للحياة، لأنها أساساً ضد الحب والأمل والحلم والحياة والجمال. لذلك تراها تخترع وتبتكر الحروب التي تبيد بها روائع الحياة وتذبح فيها البهجة والجمال والحب وجميع الأمنيات . 

لكننا، وأقولها بصراحة، إننا رغم كل الظروف، نجحنا في إحالة ذاك القبح، والكم الهائل من الخراب والرماد والدمار  إلى واحة خضراء، زاهرة، فملأنا الشوارع والبيوت والمقاهي والمدارس والساحات وخنادق الحروب المكتظة بالموت والسواد، بأروع ما في الحياة من جمال وشعر وقصص مدهشة، ورسمنا فوق ليالي المنافي البعيدة، أقماراً بحجم الحب للناس والوطن البعيد، وكتبنا على جدران السجون، بل حتى ونحن في زنزانات الموت والدم والقهر، أناشيد الصبر والصمود والتضحية، وطرزنا بخيوط الامل فجراً بروعة الطفولة و السلام.

لقد جملنا - نحن صناع الحياة- وجه ذلك الزمن القبيح، الذميم، بأغنياتنا وقصائدنا ورسوماتنا ومسرحياتنا وسمفونياتنا ورواياتنا وقصصنا، إذ لم تزل ألوان بهجتنا وإبداعنا مشعة وخضراء زاهرة حتى هذه اللحظة.

نعم، كان الزمن قبيحاً دون شك، لكننا جعلناه جميلاً، وحلواً يتذوق عسله أبناء جيلنا، و تتذوقه الأجيال اللاحقة جيلاً بعد جيل ..

واليوم أقولها مرة ثانية، إن ذاك الزمن لم يكن جميلاً بالمرة، لولا مواهبنا نحن، وإبداعاتنا نحن، وشجاعتنا، وكفاحنا، وصبرنا، وإيماننا، وصداقاتنا، ومحبتنا لبعضنا وتعاوننا فيما بيننا، وثقتنا  بالغد الجميل الواعد، لذلك نحتنا أمس في صخر الدكتاتورية رغماً عن انفها وجبروتها، لنشيد لنا ولأبنائنا وأحفادنا، عالماً وزمناً يستحق ان نسميه الزمن الجميل.. ومازلنا مستعدين للكفاح والنضال والتضحيات الغالية كي لا يعود الزمن القبيح الذي ولى بقبحه، دون رجعة ..!

ومن أجل أن يتأكد أبناء هذا الجيل من دقة كلامي، ومن روعة الإرث الجمالي والإنساني والوطني الذي  تركه المبدعون المضحون من أبناء وبنات جيلنا، رغم قسوة النظام، وقبح زمن الدكتاتورية، أضع بين أيدي القراء رسالة غالية نشرت مئات المرات، رغم ما فيها من الأسى والألم والحزن، لكنها تحكي وتترجم روعة ذلك الجيل، وعشقه للحياة، وصبره على هول وعظم المصائب، رسالة تعلن حروفها عن عظمة كاتبتها، وصمودها،  وعمق رؤيتها للمستقبل الواعد .. وهي في الوقت ذاته دليل إدانة لنظام صدام، وشهادة إثبات قدمتها فتاة في العشرين من عمرها للعراقيين خصوصاً، والبشرية عموماً، وهي يقيناً تمثل جيلاً كاملاً ..

أضع أمامكم الرسالة التي كتبتها الفتاة الشيوعية مريم عدنان من زنزانة ( الزمن الجميل) قبل اعدامها والتي ارسلتها إلى ذويها، دون أن أصحح، او أعدل فيها، او أحذف منها.

تقول الرسالة التي نشرت  بعد سقوط النظام الأسود :

"والدي العزيز، والدتي العزيزة ابلغتني الرقيبة اليوم بأنه سينفذ بي حكم الأعدام بعد ثلاثة أيام احيطكم علما بأن حسن تم اعدامه قبل اسبوعين، اعدمت اليوم احدى الفتيات واسمها رواء من أهالي الكاظمية ، اذا أمكن اخبروا اهلها بذلك لأنهم لا يعلمون بخبر اعدامها، أوصيكم قبل موتي بأن تكونوا اهلا ومربين لولدي مجيد اوصيكم بمساعدة الجميع وأنا على يقين بأن الظلام سينجلي ويأتي صباح مشرق جميل، أوصيكم أخيرا بالثبات على الموقف، الموت حتما سيأتي في يوم ما ولكن الثبات والشجاعة على الموت هو المطلوب حتى تخلد في سفر التأريخ، هذا وسلام مني لقلوبكم النقية وجميع عائلتي العزيزة نوال و عمار و تحسين و دلال و رقية. انا لن انساكم اتمنى انتم ايضا لاتنسوني.

 وختاما قبلة على جباهكم ايها الأعزاء مع الف سلامة ابنتكم مريم ١٣_٥_١٩٨٣

انتهت رسالة " العظيمة " مريم عدنان .. ولكن هل لاحظتم كيف حولت هذه الفتاة الجميلة قسوة الموت ورهبة المشنقة وقبح الجلادين، وخراب الزمن الصدامي الكارثي إلى فسحة من الحب والأمل والحياة والثقة بالمستقبل الزاهر .. إنها تقول في رسالتها هذا السطر الذي يكفي لوحده ان يخرس أقلامنا احتراماً: " أنا على يقين بأن الظلام سينجلي ويأتي صباح مشرق جميل .." ياسلام عليك يامريم وياسلام على أبيك وأمك وحزبك الفذ !!

صورة الشهيدة مريم عدنان التقطت قبل اعتقالها وإعدامها عام ١٩٨٣