بين ( كأس ) المنصب و ( شرف الخصومة) ..!

بغداد- العراق اليوم:

افتتاحية جريدة الحقيقة 

فالح حسون الدراجي

أول درس في مبادئ وقيم ( أخلاق الفرسان ) تلقيته على يد فتى لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره.. كان ذاك في العام ١٩٦٨ عندما كنت طالباً في الصف الثالث متوسط، ولاعباً جيداً أهّلني مستواي الفني إلى أن أقود فريق مدرستي ( متوسطة المصطفى ) في مدينة الثورة ..ورغم مرور كل هذه السنين، فإن تفاصيل ذلك الحدث، وملامح ذلك الفتى لم تفارقا ذاكرتي قط ..

نعم، فمازلت أتذكر تلك الظهيرة الربيعية عندما كنا نقابل فريق متوسطة الغربية في المباراة شبه النهائية على كأس مديرية تربية بغداد .. كان فريق المتوسطة الغربية يضم لاعبين أكبر منا في الأعمار والأجسام والإمكانات أيضاً، ليس من ناحية التجهيزات فحسب، بل ومن ناحية الخبرة والقدرات البدنيّة.. لكننا ومن حسن حظنا أحرزنا مبكراً هدفاً في مرماهم، وبقينا متقدمين عليهم حتى نهاية المبارة، لكن حدثاً مهماً حدث قبل نصف دقيقة من نهاية المباراة، حين اصطدم قلب دفاعنا - سعدي كاظم - بحارس مرمانا ( عبد الرزاق الطائي - شقيق الشخصية التربوية والرياضية المعروفة مكي الطائي )، وسقطا معاً، وهنا أتيحت الفرصة لمهاجم الغربية أن ينفرد بالمرمى ويحرز هدف التعادل بكل سهولة بعد ان خلا المرمى من الحارس ومن أي لاعب آخر من فريقنا، لكن وليد - وهذا اسمه - رمى الكرة نحو الجهة الجانبية اليمنى من الملعب بدلاً من مرمانا الفارغ، وركض نحو حامي هدفنا ( عبد الرزاق ) الذي فقد الوعي جراء الاصطدام وراح يجري له عملية تنفس اصطناعي، ولم يتركه حتى وصول الحكم واللاعبين.. وقتها انشغل الجميع بأمر حامي هدفنا والتأكد من سلامته، و لم ينتبه أحد لهذا العمل الإنساني الفذ..

  لكني ذهبت بعد نهاية المباراة إلى هذا الفتى الذي كان بعمري تقريباً، وصافحته، وشكرت له هذا الموقف العظيم، وقلت له كلمة مازلت أحفظها: لقد فزنا بنتيجة المباراة، لكنك فزت بما هو أسمى من الفوز والكأس والبطولة كلها .. انت فزت ياوليد برضا ضميرك، وقبل ذلك فزت بقلوبنا جميعاً..ثم صافحته مرة ثانية، ومضينا كل في طريقه بدروب الحياة والمستقبل، لكنه لم يمض من ذاكرتي حتى الان. 

كيف يمضي ويبعد عن ذاكرة قلبي، وهو الذي ضرب لي مثلاً عظيماً في شرف المنافسة، ومبادئ أخلاق الفرسان.. ولعل الشيء الرائع في هذه الحكاية التي يتذكرها حتماً حامي هدفنا رزاق الطائي، وبقية الزملاء الأحياء - أطال الله في أعمارهم - أن هذا المهاجم الخصم قد فعل ما فعله دون تفكير، او حساب، بمعنى أن أخلاقه وبيئته، وتربيته النجيبة قد دفعته إلى أن يقوم بهذا العمل الانساني والأخلاقي العظيم، وهو ما نسميه " باللاوعي"، دون أن يفكر بالفوز والكأس والبطولة، كما لم يخطر في باله ان هؤلاء الفتية ( الشروگية ) القادمين من مدينة الثورة، سيهزمون فريق مدرسته التي تعد آنذاك من أبرز المدارس المدللة في العاصمة بغداد..  

لقد علمني هذا الفتى ( الجنتلمان ) من حيث لا يدري، أول درس أخلاقي وإنساني مهم في الحياة .. وبصراحة فقد تعلمت منه أن ( الإنسان أثمن رأسمال) قبل أن أتعلمها من ماركس وتعلمت منه كيف تكون أخلاق الفرسان حين يصبح الإختبار مباشراً على المحك، وتكون المواجهة حاسمة.. وتعلمت -وهذا هو المهم-  أن الحياة حتماً ستضعنا في مواجهات ومنافسات وخصومات، وسيظهر معدن الإنسان وجوهره الحقيقي فيها دون شك .. فإما ان نحافظ على قيمنا الإنسانية والأخلاقية التي زرعها فينا آباؤنا وأمهاتنا ومعلمونا، وصانتها وحمتها تجارب الحياة ودروسها، مثل درس الفتى الذهبي وليد، فلا نسقط في المستنقع الميكافيلي التافه الذي تبرر الغاية فيه استخدام أقبح الوسائل وأقذرها، وإما ان نتخلى عن إنسانيتنا وقيمنا ومبادئنا من أجل الفوز او ما يسمى بالنصر على الخصم، وهو عار ما بعده عار.. إن تحقيق النصر على الخصم ليس هدفاً معيباً، إنما العيب كل العيب حين يتحقق عبر الإحتيال واستخدام الطرق غير الشريفة.. وفي هذا المبدأ سطر لنا التاريخ دروساً وحوادث فذة تعطر معاني  (شرف الخصومة) بأريج الإنسانية والفروسية الفذة.

فثمة قصص عديدة وباهرة عن أخلاق الفرسان، كقصة الفارس العربي عمرو بن معد يكرب الذي تقاتل مع أحد أعدائه، وأثناء المبارزة، ضرب عمرو سيف خصمه ضربة انكسر منها السيف، فوقف الرجل أمامه أعزل، يرتجف من الخوف، لكن عمرو أخفض سيفه ووضعه في غمده، وقال للرجل : ”ليس من المروءة أن اقتلك وقد أصبحت الآن أعزل، ثم تركه ومضى .."!

فأين ( فرسان ) السياسة العراقية والعربية اليوم من مثل هذه القيم النبيلة..؟!

ان الفوز مهم كما قلت، لكن الحفاظ على إنسانيتك أهم من أي فوز، فما فائدة ان تربح الدنيا كلها وتخسر نفسك ؟!

أما الانتقام، والغدر، والتشهير، والتسقيط، الذي يمارس اليوم، واستغلال خطأ الخصم استغلالاً انتقامياً بشعاً، فهو عندي أسوأ ما في الخصومة.. والأسوأ أيضاً ، حين تتهم خصمك بعار  او ذنب أو حتى خطأ إداري، فتستغله وتلصقه به ظلماً، وأنت تعلم أن الرجل لم يرتكبه، ثم تعمل على تسويق هذه الفرية، وتجعلها ( حقيقة) و جريمة تطالب ( البريء ) بدفع ثمنها، ومعاقبته عليها.

 إن هذا النوع  من العاملين في السياسة، او في مواقع القرار، والسلطة، يعيش حالة من الفصام النفسي بين ضميره الإنساني وبين مشاعره الانتقامية التي تتغلب عليه، فيطعن في الأعراض، ويستسلم لغرائز الثأر البدائية والسادية، وإذا كان ذا سلطة فيستسلم  لغرائزه في تعذيب الضحية والإيذاء لمخالفيه او  المعترضين على نهجه ..

ومن اسوأ الدلالات التي تدل على انعدام شرف الخصومة في السياسة العراقية هذه الأيام، تشويه الخصوم والاقتصاص منهم ومن عوائلهم واستبعادهم من مراكز القرار والخدمة العامة وغير ذلك ..

وفي هذه الجزئية روي عن نَوف بن فُضالَة البِكالي، حاجب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في فترة حكومته قوله، : " إني لأجد بعض هذه الأمة، قوم يحتالون على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمر من الصبر ، يلبسون للناس مسوك الضأن ، وقلوبهم قلوب الذئاب"..

ويقول احد الفقهاء في أخلاق الفرسان الشرفاء :

" إذا سقط الفارس على الأرض أصبح فى ذمة أخيه وإذا سقط منه سيفه أصبح أيضاً فى ذمة أخيه، فلا يقربه ولا يؤذيه ولا يهينه".

ختاماً أقول بما تقوله أغلب المصادر: "شرف الخصومة أن يظل الإنسان إنسانًا، يحافظ على إنسانيته، وأخلاقه حتى في مواجهة أشد الصراعات، وهو ما يميز الشخص الشريف عن الشخص الخسيس .."!.