بغداد- العراق اليوم:
افتتاحية جريدة الحقيقة
فالح حسون الدراجي
مشكلتنا مع الأشقاء العرب حين نلتقيهم، تكمن في شخص ( صدام حسين)، إذ ما ان يعرف هذا الشقيق انك عراقي، حتى ( يرگعك ) باسم صدام حسين ومديح وتغزل به وببطولاته لاينتهي إلى أن (تطلع روحك). ولما تضطر إلى سؤاله عن هذه (البطولات) يقول لك: أبو عدي هو الوحيد الذي ضرب تل أبيب بـ 39 صاروخاً .. وحين تقول له : (طيب مو حسن نصر الله) قصف اسرائيل أيضاً، ولكن ليس بتسعة وثلاثين صاروخاً، إنما بمئات الصواريخ التي أرعبت الصهاينة فعلاً وليس زوراً، وأزالت النوم من عيون نتنياهو .. رغم أن نصر الله مجرد قائد (ميليشيا) كما تسمونه، وليس رئيس دولة يتوافر على كم هائل من الموارد والأسلحة والنفط .. ورغم ذلك فقد احتفلتم بمقتله حين اغتالته طائرات الكيان الصهيوني ! كما أن ( الخامنئي ) حشر الصهاينة 12يوماً في جحور الملاجئ كالجرذان، فضلاً عن ( يحيى السنوار)، الذي لعب طوبة بالاسرائيليين - مع أني شخصياً ضد عملية 7 أكتوبر - والشيء نفسه يقال عن زعيم ( أنصار الله ) عبد الملك الحوثي، الذي قطع الماء والكهرباء عن اسرائيل وموانئها ومطاراتها، لكن أحداً من أشقائنا العرب لم ينطق بكلمة طيبة واحدة عنه أو عن البقية الذين أبكوا الصهاينة وأوجعوهم! إن الأخوة العرب غير صادقين في تبرير حبهم لصدام، وأعتقد انهم مصابون بعقد وأمراض نفسية يتوجب علاجهم منها.. ولهذا أقول دائماً إن القضية ليست قضية صواريخ، وإسرائيل وبطيخ، إنما ثمة سر سيكتشف يوماً ما حتماً ..! فمثلاً قبل عشرة أيام راجعت طبيبة أمريكية اختصاصية في العلاج الطبيعي، بعد شعوري بآلام في ساقي.. وفي تلك العيادة جلست في صالة الانتظار الى جوار رجل أسمر ذي ملامح وسحنة عربية.. ابتسم لي الرجل مرحباً ثم قال دون مقدمات: يبدو أنك عربي.. أليس كذلك ؟ قلت له : نعم ومن العراق.. فرحب بي الرجل كثيراً، وأشاد بطيبة العراقيين وكرمهم.. وطبعاً هو لم يفوتِ الفرصةَ، فراح يعزف سمفونية ( البطل القومي) صدام حسين، وتلك اللازمة الكريهة- لازمة الصواريخ الـ 39 التي ابتلانا بها الله -. في البدء حاولت أن أتجاوز هذا الموضوع، خاصة وأن مزاجي عكر تلك اللحظة، ولم تكن لي رغبة قط في الحديث مع هذا الكائن.. لكن إلحاحه بالحديث عن بطولات صدام وشعبيته الكبيرة داخل العراق وخارجه، دفعني إلى أن أقترب منه، وأضع أمامه عبر شاشة تلفوني فيديو (الحفرة) المهين، وما فعله الطبيب الأمريكي مع صدام بعد إخراجه من ( النگرة )، وأهمس في أذنه ساخراً : هذا هو بطل العروبة.. أليس من العار أن نسمي هذا الجرذ بطل عروبتنا ؟! وطبعاً أني لم أكتف بذلك، إنما عرضت أمامه فيديو ثانياً لـ (نعال أبو تحسين ) وهو يصعد وينزل على رأس صدام في واقعة إسقاط التمثال في ساحة الفردوس.. وبعد ان رأى هذا الفيديو ، قلت له: ها .. ارأيت حجم (حب) الشعب العراقي لصدام حسين .. ؟! لكن الأخ ظل مصراً على ان صدام لم يهرب ولم يختف في الحفرة، والقضية كلها فلم من أفلام ( هوليود ) !! ضحكت وقلت له: لنفترض أن الذي رأيناه كان فيلماً هوليودياً فعلاً، ولكن، لماذا لم يقاتل صدام حتى الموت، حاله حال هتلر، وسلفادور الليندي، و القائد المنغولي ( تيمور لنك ) وغيرهم من القادة.. ولماذا لم يصمد كما صمد الزعيم الأندنوسي احمد سوكارنو، والقائد فيدل كاسترو، والأسطورة نيلسون مانديلا، وغيرهم من زعماء وقادة العالم الحقيقيين .. اليس هو القائد العام للقوات المسلحة العراقية.. فلماذا ترك جيشه يقاتل، وهرب؟! قاطعني الرجل قائلاً : - لقد كان القصف على موقعه وقصوره شديداً، وأن بقاءه بموقعه قرار غبي وانتحاري، لاينفع الجيش ولا البلد ولا حتى المقاومة !! ضحكت وقلت له: وهل تعتقد أن الحفرة التي أخرج منها صدام كجرذ مبتل قد نفعت الجيش والمقاومة ؟ ثم عن أية مقاومة تتحدث، وهو الذي لم يطلق على العدو من بندقيته التي صدئت بسبب عدم استعمالها، طلقة واحدة، بل لم يطلق حتى (بعرورة)! وعلى ذكر الانتحار، لماذا لم يطلق صدام على رأسه طلقة الشرف، وينتحر كما انتحر هتلر، و الليندي، وغيرهما، فينجو من عار الإستسلام وعار الحفرة الذي سيلاحقه ويلاحق عائلته بعد ألف جيل ..؟! لكن هذا الأخ العربي أجاب على سؤالي بمكر قائلاً : إن هتلر مجرم وسفاح.. فهل تريد الاقتداء بمجرم ؟! ضحكت وقلت له: شوف شلون تتحايلون حين تقعون بالحرج، ثم هل إن صدام لم يكن مجرماً وسفاحاً ؟! وأكملت حديثي بقولي له: ومع ذلك دعك من المجرم هتلر ، وخذ الزعيم التشيلي التقدمي والديمقراطي سلفادور الليندي مثالاً، فهذا الطبيب الماركسي، لم يكن مجرماً قط، بل ولم يكن عسكرياً بالمرة، حيث وصل لمنصب الرئاسة عن طريق الانتخاب الشعبي، لكنه واجه قوة الانقلاب العسكري بشجاعة كبيرة، واختار أن يبقى في قصره الجمهوري بدلاً من الهرب، مؤكداً على موقفه الباسل، ورفضه الاستسلام .. وفي ذروة الضغوط، والهجوم العسكري، ألقى خطاباً للشعب قبل أن ينتحر ، مما أظهر التزامه العالي بقيمه ومبادئه السامية الوطنية، ورغبته بمواجهة الظلم حتى الطلقة الأخيرة، رافضاً بقوة ترك الجماهير تواجه وحدها الانقلاب المدعوم أمريكياً، على الرغم من وجود خطة جاهزة ومعدة لمغادرته تشيلي، بحسب ما نصحه بعض المقرّبين إليه.. لذلك أحبته الجماهير وظل حاضراً في ذاكرتهم حتى اليوم، رغم مرور اكثر من نصف قرن على غيابه. وهنا اعترف بأن مقارنة صدام حسين بسلفادور الليندي، مقارنة غير عادلة، إذ كيف يقارن شخص جبان ترك جيشه وهرب يختفي بحفرة، برجل شجاع ظل يقاوم ويقاوم ويقاوم ؟.. حيث تقول وثائق التاريخ، والوقائع، والشهود الأحياء، إن في صباح يوم التاسع من 11 أيلول 1973، وبعد ساعات على بدء الانقلاب، حاصرت قوات بينوشيه، القصر الرئاسي، مطالبين الليندي بالاستسلام أو الهروب، لكن الرئيس، المنتخَب، رفض ذلك وقرر الصمود والمواجهة بعزم، فارتدى الوشاح الرئاسي، الذي سبق أن لبسه رؤساء التشيلي مدة قرنين من الزمن، ووجّه رسالة أخيرة إلى الشعب من شرفة القصر الرئاسي، بُثت عبر الراديو، مؤكداً للشعب التشيلي أنه لن يستسلم حتى الموت. وبحسب طبيب الليندي الشخصي، غويجون، فقد أطلق الرئيس على نفسه النار من سلاح آلي كان قد أهداه اليه صديقه الرئيس فيديل كاسترو، بعد ان تأكد دخول الإنقلابيين إلى القصر .. وهكذا فضّل الانتحار على أن يُلقي جنود بينوشيه القبض عليه، او يستسلم لهم.. وبعد نقل جثمان الليندي إلى مستشفى سانتياغو العسكري، أتت نتائح الفحص الطبي لتؤكد ما ذهب إليه غويجون.. توقفت لحظة عن الحديث وأنا أسمع سكرتيرة الطبيبة تنادي باسمي، فنهضت مبتسماً، بل وفرحاً أيضاً لأني تذكرت مشاركتي قبل نصف قرن مع حشد من كبار شعراء القصيدة الشعبية التقدمية بالمهرجان الشعري الذي أقامه الحزب الشيوعي العراقي في حدائق جمعية التشكيليين، تضامناً مع الشعب التشيلي، بعد أيام قليلة على الإنقلاب، وقد كانت إحدى لوحات قصيدتي عن صمود البطل سلفادور الليندي وأخرى عن رفيقه المغني التشيلي الشهير فكتور جارا .. والقصيدة منشورة في ديواني الذي صدر عام 1975.. فأي فخر عظيم نلته في أول صباي عبر مشاركتي بذلك المهرجان الذي لن يمحى أبداً !..
*
اضافة التعليق