بغداد- العراق اليوم:
افتتاحية جريدة الحقيقة
فالح حسون الدراجي
أمس الخميس، احتفلت مع العائلة بعيد ميلادي.. ولعل سائلاً يسأل : كيف عرفت يوم ميلادك وأنت الذي ولدت في ناحية كميت بمحافظة ميسان، حيث لم يكن وقتها أحد يهتم بتدوين يوم الميلاد، أو قد يفكر بإصدار شهادة لميلاد مولوده ؟! والجواب: ان الفضل يعود لوالدتي أولاً، وللصدفة ثانياً حين ذكرت لي أنها ولدتني ليلة ( الأول من آب اللهاب، اليقلع البسمار من الباب) ! لذلك ظل هذا التاريخ ومعه المثل الشعبي نابتاً في ذاكرتها رحمها الله .. وهكذا عرفت مولدي في 31 تموز .. لكن للأسف لم أحتفل، أو يحتفل أحد معي بعيد ميلادي حتى العام 1985، حيث تم ذلك على يد فتاة اسمها (سميرة )، وسآتي على ذكرها لاحقاً. وطبعاً فإن الإحتفال بيوم ميلادي لم يتكرر بعدها مرة ثانية إلا عند اقامتي بامريكا، بعد أن كبر أولادي وصاروا شباباً وأدركوا معنى وأهمية الاحتفال بعيد ميلاد الاب .. أما سالفة سميرة، فتبداً من العام 1984 حين تلقيت دعوة من الفنان الكبير الأستاذ فاروق هلال لزيارة مقر تدريبات الفرق الفنية الإنشادية والغنائية التي يشرف عليها آنذاك.. وما أن دخلت القاعة، حتى أوقف هلال الإنشاد، وهو أمر لا يفعله الأستاذ فاروق أثناء التدريب مهما كان الضيف، لكنه فعلها اعتزازاً بزيارتي ! وللحق فإن هذا الترحيب قد أعطى لوجودي أهمية في عيون هؤلاء الشباب والشابات .. خاصة وأني ازور الفرقة لأول مرة.. قدمني الأستاذ فاروق هلال تقديماً رائعاً، وهو لا يعرف أن أغلب أعضاء الفرقة هم أصدقائي، وأن أكثرهم من أبناء مدينتي/ مدينة الثورة / أمثال حسن بريسم وعبد فلك وقاسم ماجد، وسعد عبد الحسين، وسامي هيال وفيصل حمادي، ووحيد علي، وهادي الشاطي وكريم عباس، وكريم هميم وسرور ماجد ومالك محسن وموسى كاظم وماجد عبد نور وفاضل فالح ومحمد لفتة وعدد غير قليل غيرهم .. لكن ثمة فتاة جميلة جداً رمقتني من دون البنات المنشدات بنظرة مفاجئة، لم أكن أتوقعها، او مستعداً لها،هي نظرة ( خاصة) هزت كياني، حتى شعرت بارتباك شديد ولم أستعد تركيزي إلا بعد عشر دقائق تقريباً ..فرفعت رأسي نحوها، لأجدها تنظر لي نظرة (باسمة)، وكأنها تقول لي بسخرية لاذعة: (هاي شبيك استاذ) ؟! وبعد دقائق أخرى، شعرت ان وجودي بات ( اوڤر) لذا يجب أن أحترم نفسي وأغادر حالاً.. فغادرت القاعة فعلاً، لكن عينيها الواسعتين، والساحرتين جداً لم تغادراني .. وأذكر أني ليلتها لم أنم ساعة واحدة، علماً أن هذا الأرق العاطفي كنت قد نسيته، وتركته على وسادة الصبا والمراهقة منذ سنين بعيدة .. لقد كانت عيناها تخترقان منامي تلك الليلة، وتجهضان نعاسي بقسوة .. فبقيت ( صاحياً) حتى خيط الصباح.. لذلك ذهبت في صباح اليوم الثاني الى بيت صديقي سعد عبد الحسين، لعلي أحظى منه بمعلومة مفيدة عن هذه المخلوقة الغريبة والعجيبة .. وقبل ان اساله، قال ضاحكاً: هاي شسويت يافالح بالبنية .. دمرتها .. تدري تخبلت وراك، مرة تسألني، مرة تسأل فيصل، خاصة من عرفت إحنه أصدقاءك جداً ومن نفس المنطقة ايضاً؟ وخلال ساعة من الحديث مع سعد علمت أنها تسكن المنصور، و( فايخة كلش )، تدرس في القسم المسائي بمعهد الفنون الجميلة، لا تملك صوتاً غنائياً انفرادياً، إنما تملك وجهاً جميلاً يفيد الفرقة الجماعية.. لاتتوافر عنها أية معلومات خاصة، فهي تضرب ستاراً حديدياً على حياتها الخاصة والأستاذ كريم هميم - والد المطربة اللامعة أصيل هميم- هو الشخص الوحيد الذي يعرفها باعتباره أستاذها في معهد الفنون، فضلاً عن أن الاستاذ فاروق يثق بكريم جداً، فيسمح له بإيصالها إلى البيت بعد التدريب .. بعد يومين، تم التواصل مع سميرة عبر الأصدقاء، وبعد أيام قليلة، فوجئت بسميرة تطرق باب بيتنا المتواضع في قطاع 43 / مدينة الثورة .. نعم سميرة بلحمها ودمها ووجهها القمري الدائري الناصع، وعينيها الواسعتين والساحرتين، تقول لي : صباح الخير أستاذ فالح !! يا الهي ما هذا الذي أراه، هل أنا في حلم أم علم أم ماذا .. سميرة في بيتنا ؟! لكن سميرة كسرت دهشتي وقالت ضاحكة: هل سأظل واقفة عند الباب أم ..؟! قلت لها: لا لا تفضلي.. لقد أذهلني الفرح وليس غيره ! ومنذ ذلك الصباح، راحت سميرة تأتي من المنصور إلى بيتنا في ( الثورة) صباح كل يوم تقريباً، وبعد أن نتناول فطورنا معاً نذهب بصحبة الصديقين سعد وفيصل إلى الأماكن التي نروم الذهاب اليها، ثم نوصلها إلى بيتها ونعود الى بيوتنا في المدينة.. وفي 31 تموز العام 1985 دعتني سميرة والصديقان، سعد وفيصل إلى احد المطاعم في بغداد، وإذا بها تخرج ( كيكة مميزة ) وقد كتبت عليها عبارة : ( ميلاد سعيد فلوحي ) !! كانت المفاجأة في كيفية معرفتها بيوم ميلادي وأنا نفسي قد نسيت ميلادي !! المهم احتفلنا ذلك اليوم، وكان الحفل حميمياً رائعاً رغم بساطته وصغره. وهنا اود أن أقول إن والدة سميرة تركية، ويقال إنها مدفونة في إسطنبول، أما والدها فقد كان كركوكلياً .. لذلك كانت اللكنة واضحة في لغتها العربية.. ولأنها جميلة وكريمة جدا فقد أحبتها أمي، وكثيراً ما كانت تطلب مني الزواج منها، لكن أمي لم تكن تعلم أن زواجي من سميرة كان أمراً مستحيلاً، بل هو من سابع المستحيلات، وأسباب ذلك (خاصة) ليس مهماً ذكرها. بعد ستة أشهر من احتفالها بعيد ميلادي جاءتني حزينة شاكية باكية بسبب قلة اتصالاتي وعدم لقاءاتي بها، لكن سميرة تلقت مني جواباً صادماً حين قلت لها: أعتذر منك يا سميرة، فأنا تعرفت على فتاة من بيئتي ومنطقتي، وقد اتفقنا على الزواج، وسنتزوج قريباً ..! ابتسمت بمرارة، وقالت بكلمات متعثرة: مبروك حبيبي .. مبروك فالح .. !! لكن دمعة كبيرة انزلقت على خدها وهي تمد يدها لي قبل ان تغادر المكان. ومنذ ذلك اليوم حتى هذا اليوم، لم ألتق بسميرة، ولم أسمع صوتها أو أتوصل إلى أية معلومة عنها، رغم أني سمعت الكثير، فثمة من يقول: عادت إلى كركوك، وآخر يقول سافرت خارج العراق، وبعضهم قال إنها توفيت، وكلهم يقول الكلام على عواهنه بدون معرفة.. لقد مضت سميرة وظننت أنها راحت إلى الأبد، أما أنا فقد تزوجت بعد فترة ورزقت بأولاد رائعين، كبروا وصاروا يقيمون لأبيهم أروع الحفلات بعيد ميلاده، ويقدمون له أغلى الهدايا، لكن الاحتفال الأول الذي أقامته سميرة، مع (كيكتها) وهديتها وأشيائها لي، بقي راكزاً في ذاكرة قلبي، لم يغادرني قطعاً.. ولا اكشف سراً لو قلت إني أشعر بوجع وألم وندم كلما تذكرتها وتذكرت دمعتها، ولم أسترح من وجعي بها، رغم أني كتبت لها أغنيات وقصائد عديدة، ورغم أني سألت عنها داخل العراق وخارجه، ولم أوفر صديقاً أو صديقة من معارفنا إلا وسألت عنها، لكنها ضاعت، وكأنها (فص ملح وذاب )، وقد زاد الطين بلّه غربتي وسفري وابتعادي الطويل.. لكن مفاجأة قدرية تشبه نهايات الأفلام الهندية وقعت ليلة امس الخميس ، حين تلقيت رسالة نصية على رقم هاتفي / الواتساب / تقول (ميلاد سعيد فلوحي) التوقيع: سميرة عبد القادر. واو.. ماذا يحصل يا الهي ؟ أيعقل بعد هذه القطيعة الصارمة، التي امتدّت من العام 1985 حتى 2025 .. ترسل لي سميرة ذات الجملة التي كتبتها لي على كيكة في أول احتفال بعيد ميلادي قبل اربعين سنة ؟! والمشكلة أن ( كود ) البلد الذي ارسلت منه سميرة كان غريباً، وعبثاً حاولت التوصل لمعرفة هذا البلد.. حتى شعرت أنها ترسله من كوكب المريخ.. أو قد يكون اتصالاً خاصاً من (الآخرة) !.. ورغم ذلك كله فقد شعرت ان ما حصل قد يكون حلماً او وهماً او جنوناً، قد يحصل لنا أواخر العمر ..!
*
اضافة التعليق