مات (الملحد) زياد الرحباني، فبكاه (المؤمنون) ..!

بغداد- العراق اليوم:

افتتاحية جريدة الحقيقة

فالح حسون الدراجي

مات (الملحد) زياد الرحباني أمس الأول، فبكاه المؤمنون الذين يؤمنون بالله الجميل، وبالحق والعدالة والمحبة والكرامة والحرية وقيم الإنسانية ..

مات ( المناضل ) زياد الرحباني، فحزن عليه الفقراء والكادحون، والناس  المعدمون، والثوريون، والمناضلون الحقيقيون، وحزنت عليه الأغنيات، والقصائد، ومواويل العتابا والميجانا، وليالي المسارح المضيئة بقناديل الجمال والدهشة، وتراتيل وترانيم القداسات الكنسية، ومنابر الجرح الحسيني الممتدة من وجع الضاحية الجريحة حتى النبطية، و(بنت جبيل) الصبر والعزة والثبات ..

مات زياد أمس الأول في مستشفى خوري بمنطقة الحمرا، فبكته صبايا الحمرا ومحلاتها، وشارعها الطويل وكل الطرقات المضمخة برائحة نسيم البحر، ودفء الأيام العتيقة التي مر  زياد على صباحاتها، بألحانه وابداعه وجنونه الاستثنائي، فظلت شاهدة على عبقرية هذا الفتى الفيروزي اللامع.

مات زياد، فبكاه الناس في كل أحياء بيروت ومخيمات

القهر، بدءاً من الفاكهاني وصبرا وشاتيلا وتل الزعتر وبرج البراجنة، حتى صبايا حارة حريك وخلدة وشباب الأوزاعي ورأس النبع وغير ذلك من مناطق بيروت، بل وكل مناطق لبنان وأوجاعها الدامية .. نعم لقد بكى على رحيل زياد، لبنان بكباره وصغاره وأطفاله، بما في ذلك بقايا الطفولة المفجوعة منذ ضياع طفل الأحراش ( شادي ) حتى ضياع أحراش لبنان كلها..

وحين مات زياد امس الأول، انهارت (جارة القمر) ويقال إنها غائبة عن الوعي حتى كتابة هذا المقال ..

ولا أعرف كيف لاتنهار فيروز وهي فيروز، والميت زياد ؟

زياد قرة عينها - مهما اختلفا - فهو اختصار لروعتها منذ أن لحن لها رائعته الأولى : (سألوني الناس عنك يحبيبي) وهو في الرابعة عشر من عمره، ورائعته الأخرى :،( كيفك إنت)؟ وما بعدها من روائع باهرة لا تعد ولا تحصى.. أليس هو نجلها، ومترجم موهبتها إلى لغات الجمال، والذي فيه بعض من جنون وفنون أبيه عاصي، والكثير من جنون الرحابنة كما تقول فيروز شخصياً ؟!

وللحق، فإن زياد حين مات صباح أمس الأول، لم تبكه أمه فيروز وحدها، ولا أخته ريما فقط، إنما بكته ونعته (أمة لبنان) كلها، بما في ذلك (ساستها) الذين نالهم و( شرشحهم ) زياد بقلمه وفنه وأحاديثه ومسرحياته. نعم لقد بكى اللبنانيون البسطاء، زياد، لأنهم أحبوه، فهو الذي عكس بصوته المتمرد أوجاعهم وبؤسهم

ورفع بواسطة أجنحة الفن هواجس لبنان وآلامه إلى السماء، والى كل من يعنيه أمر لبنان، فكان بذلك المرآة التي تري العالم و اللبنانيين صور حاضرهم ومستقبلهم بدون تزييف.

والسؤال الآن: هل كان زياد الرحباني كافراً كما يتهمه بعض الكارهين له؟!

والجواب يأتينا من خلال أعماله الغنائية والمسرحية والسينمائية وأيضاً كتاباته وتصريحاته ومقابلاته التلفزيونية والصحفية.. وهنا أذكر مرة سألته مذيعة لبنانية قائلة: كيف يمكن لنا معرفة شخصيتك وعقيدتك وأفكارك؟!

فقال لها دون تردد: تجديني في أعمالي .. فهي تعكس عقيدتي وشخصيتي وكل ما تريدين وتسألين.

وهنا بيت القصيد كما يقال فلو ذهبنا إلى جوهر أعماله

الفنية، فلن نجد فيها أيّ ما يدعو او يشير إلى ( كفره )، بل على العكس من ذلك، فالرجل ضد الكفر ، وها هو يصرخ بأعلى صوته مردداً في رائعته الشهيرة :"

( أنا مش كافر) ، فيقول :

أنا مش كافر بس الجوع كافر .. أنا مش كافر بس المرض كافر .. أنا مش كافر بس الفقر كافر والذلّ كافر

أنا مش كافر.. لكن شو بعملّك إذا اجتمعوا فيّي كل الإشيا الكافرين .." ؟!

وحين سالته المذيعة: ماذا تحب يا زياد ؟

فقال: أحب الله، فالله كان ولم يزل صديقي، هل تصدقين لو قلت لك إني أصدرت أول ديوان شعر كتبته العام 1971، وعمري كان 17 سنة فقط، والديوان بعنوان"صديقي الله" ؟!

وعلى ذكر الحب فأنا أحب أيضاً السيد حسن نصر الله

وأحب كذلك جيفارا، وأحب (الجمال) أينما كان

قالت له : أين ترى الجمال يا زياد ؟

قال: أراه في الوجوه الحلوة مثل وجهك الملائكي ..!

قالت له: وماذا تكره ؟

قال : اكره القبح أينما كان !

قالت: وأين تراه مثلاً ؟

قال: أوووووووو ه كثير كثير أراه مثلاً في القاتل آرييل شارون. وفي سمير جعجع، وأمثالهما الكثير في الدنيا !

قالت له المذيعة: هل أنت شيوعي؟

قال لها: نعم بكل فخر .. ولن أغادر الشيوعية حتى الموت ، فالشيوعية ليست نادياً أو مقهى إنما عقيدة ..

قالت له: إذا التقيت بسمير جعجع يوماً في كنيسة ومد يده لمصافحتك، فهل ستصافحه أم لا ؟

قال لها: على ذكر الكنيسة، هل تعلمين أني كنت أقصد كنيسة مار الياس في انطلياس حين كنت في السادسة عشر من عمري، وكنت وقتها أقود جوقة قداس الشباب.. و ألحّن النصوص الكنسية فيها آنذاك.. أما إذا التقيت بجعجع في الكنيسة أو أي مكان، فلن أصافحه قبل أن يغسل يديه الملطختين بالدماء البريئة ..!

وهنا يمكن لي القول بضرس قاطع إن زياد لم يكن كافراً، إنما كان مؤمناً بالإنسان والعدالة والحرية والكرامة والحياة ولم يتأخر يوماً عن إعلان مبادئه وقيمه بصراحة وبلا خوف،

فمثلاً رائعة (هذا السيد) كتبها ولحنها وقدمها زياد عن قائد المقاومة السيد حسن نصر الله في أحرج الظروف السياسية والأمنية

في لبنان والمنطقة، وكانت علاقته الوثيقة بحزب الله وقادته واضحة ومعروفة لم يخفها يوماً حتى ساعة رحيله صباح أمس الأول.. وفي الوقت نفسه، كان زياد يعلن عن تقديره واعجابه بقيادة رفيق الحريري، وقدرته على إبعاد لبنان من كماشة الحروب القاتلة.

كما اعلن زياد عن غضبه واستنكاره لاغتيال الحريريّ وقد جاء ذلك من خلال حلقات الإعلان رقم 1 و 2 و 3 و 4. في العام 2006 التي بثها على إثر حادثة الاغتيال، والتبعات التي حصلت خلال تلك الفترة. ..

إن فن وبرامج وكتابات زياد الرحباني كانت تهدف إلى قول الحق دون غيره مهما كان الموقف والظرف.. وقد استخدم المسرح كإحدى أدوات النقد والكشف الاجتماعي والسياسي التي عالج من خلاله قضايا الحرب الأهلية، والفساد، والطائفية، والعدالة الاجتماعية، وقضايا المواطن اليومية كالخبز والوقود وفساد البنوك، وغير ذلك من المشاكل.

ولعل من أبرز مسرحياته التي تحولت الى ظاهرة ثقافية في لبنان: مسرحيته ( بالنسبة لبكرا شو )، التي فجرها كالفتيلة في العام (1978) ، وقد تناول فيها بأسلوب ساخر قضايا الخيانة والانتماء والوضع السياسي الهش آنذاك.. وثمة أعمال مسرحية كثيرة أخرى، ناهيك من برامجه التلفزيونية المهمة.

ومن طرائف زياد الرحباني قوله في احدى المقابلات التي جرت معه في لبنان:  

" السنة لهم السعودية ..

والشيعة لهم ايران ..

والموارنة لهم فرنسا ..

والكاثوليك لهم الفاتيكان ..

والروم لهم روسيا ..

أما نحن (الملحدين )…فما إلنا غير الله .. الله وبس"..!

وقبل الختام اود أن أشير هنا إلى أن زياد رحباني رفض اجراء عملية جراحية تدفع تكاليفها الحكومة اللبنانية قبل أيام من وفاته، وقد جاء ذلك على لسان وزير الثقافة اللبناني غسان سلامة نفسه، الذي اعترف لقناة الجديد قائلاً: " الراحل زياد الرحباني، رفض اجراء عملية الكبد، بعد علمه أن الحكومة اللبنانية ستتكفل بتكلفة العملية بالكامل .."

وهنا قد يسألني أحد القراء ويقول: إذا كان زياد قد رفض ( مَكرمة) الحكومة، بدفع تكاليف عمليته، كيف إذاً نعته الحكومة بل والرئاسات اللبنانية الثلاث، والنواب، ورؤساء الأحزاب السياسية وحتى قادة الميليشيات بما في ذلك سمير جعجع نفسه؟

والجواب: لقد نعاه هؤلاء - إعلامياً وظاهرياً- أما باطنياً فأغلبهم سعيد برحيله، لأن موته أنقذهم من سياطه اللاهبة التي كانت تجلد ظهورهم الفاسدة يومياً !

أما الناس، فهم وحدهم الذين بكوا عليه بصدق ..

علق هنا