بغداد- العراق اليوم:
افتتاحية جريدة الحقيقة
فالح حسون الدراجي
اليوم يحتفل الشيوعيون العراقيون وأصدقاؤهم بمرور واحد وتسعين عاماً على تأسيس حزيهم .. وحتماً فأن الاحتفال بعيد ميلاد هذا الحزب الوطني ذي التاريخ الناصع، المطرز بأوسمة المجد والنضال والشرف والتضحيات، يختلف عن احتفالات غيره.. فقد مرت على الحزب الشيوعي ظروف قاسية، أجبرت أعضاءه وأنصاره على أن يحتفلوا بتأسيسه وهم في السجون والمعتقلات، او في الأوكار الحزبية والبيوت السرية، أو في مواقع الكفاح المسلح بجبال كردستان، والأهوار، أو في المنافي الباردة.. لكن رغم قسوة الظروف، وتباين الاحتفال بين لجنة حزبية وأخرى، إلا أنها جميعاً تحمل مذاقاً حلواً واحداً رغم كل المرارات. أنا شخصياً بدأت الاحتفال بعيد ميلاد الحزب بشكل فعلي منذ آذار العام 1972 وكان احتفالاً مزدوجاً بدأ بسفرة جماعية مختلطة إلى أحد بساتين ناحية أبي صيدا التابعة لمحافظة ديالى، واكتمل في اليوم الثاني في بيت أحد الرفاق في بغداد الجديدة، وقد حضر الحفل الشاعران الراحلان كريم العراقي وخيون دواي الفهد.. ومنذ تلك الليلة العطرة حتى اليوم، لم أنقطع عن الاحتفال بميلاد الحزب الشيوعي، مهما كانت الظروف المحيطة بي.. فقد احتفلت مثلاً مع الرفاق والأصدقاء مرات عدة، ومع عائلتي مرات، كما احتفلت أكثر من مرة لوحدي فقط.. ولم تكن احتفالاتي ( دهن ودبس ) دائماً، إذ قد تتوفر أحياناً كل (لوازم) الاحتفال، وقد لا أجد أحياناً حتى علبة السجائر المهمة في مثل هذه المناسبات الموجعة رغم سعادة الميلاد .. وحتماً أن آلاف الشيوعيين وأصدقاءهم يحتفلون مثلي بعيد ميلاد حزبهم، وقد يحتفلون في ظروف أصعب من ظروفي ..! ومن بين احتفالاتي تلك، أذكر اليوم في هذا المقال ثلاث حفلات فقط، بسبب تميزها وتميز ظروفها آنذاك، الاولى في العام 1974، حيث تلقيت بصحبة الشاعر الكبير عريان السيد خلف دعوة من رفيق ( سيد) لا أتذكر اسمه، يسكن مدينة الثورة ويعمل معلماً في إحدى مدارس قضاء الرميثة، وكان الاحتفال بمناسبة الذكرى الأربعين لميلاد الحزب.. وقد اقيم الحفل في مضيف كبير في ريف الرميثة حضره أكثر من 150 فرداً، وكانت صور فهد مع اللافتات والشعارات الشيوعية تملأ ( شبات ) المضيف .. لقد كان حفلاً فريداً لم تمحَ صورته من ذهني وقلبي كل هذه السنين .. تصوروا أن ثمة (مسبحة) واحدة كانت تنتقل من يد مغنٍ إلى يد مغنٍ آخر.. بحيث غنى في تلك الليلة اكثر من عشرين مغنياً، عدداً كبيراً من الابوذيات السياسية والعاطفية التي كتبت خصيصاً للمناسبة ! ولم تنته الحفلة إلا عند طلوع الفجر .. أما الحفلة الثانية، فقد كانت في 31 آذار 1998 ، عندما كنا في الأردن، أي قبل سفري إلى أمريكا بفترة قصيرة، حين بادرت بشكل شخصي لإقامة حفلة بمناسبة عيد ميلاد الحزب في بيت أحد الأصدقاء المقيمين في عمان، وقد صادف وجود عدد من القامات والأسماء الوطنية العراقية في عمان مثل الأساتذة ناجح المعموري وكاظم الحجاج وهادي الحسيني وحسن السعيدي وغيرهم من العراقيين، كما حضر الحفل المناضل سمير بوتاني أحد المرافقين الشخصيين للشهيد سلام عادل، وصادف أن كان موجوداً في عمان، الفنان جعفر الخفاف، وحين قلت له ممازحاً: الليلة سنحتفل بعيد ميلاد الحزب الشيوعي وليس معنا فنان، هل تستطيع الحضور والمشاركة ؟ فقال : بكل سرور سأحضر وأشارك في حفل الحزب الشيوعي العراقي .. فحضر الخفاف وغنى بعض الأغاني العاطفية وكذلك الوطنية مثل أغنية الشمس شمسي وغيرها .. لقد كان الحفل رائعاً جداً ايضاً، بحيث صرنا نتذكره كلما التقينا بالروائي ناجح المعموري، او بالأصدقاء الذين حضروا تلك الليلة.. أما الحفل الثالث فقد كان مختلفاً تماماً، حيث أحيينا ليلة ميلاد حزبنا العام 1984، ونحن جنود في (الفرقة 24 ) بقلعة دزه / رانية/، وقد ضم الحفل إلى جانبي، كلاً من الشاعر الكبير كاظم إسماعيل الگاطع، والمناضل جابر السوداني، والصديق سلام الجراح .. ولعل من حسن الصدف ان يكون الشاعر كاظم الگاطع سائقاً لسيارة راديو كبيرة، أشبه بمحطة راديو برقية، مبردة تبريداً جيداً، وهي مقفلة، بحيث يمنع منعاً باتاً الدخول اليها.. وإذا كنا أنا والگاطع والسوداني شيوعيين، فإن ابن مدينة العمارة الجندي سلام الجراح كان مستقلاً، لكنه جازف وشاركنا روعة تلك الليلة اعتزازاً بنضال الحزب الشيوعي، وبعلاقته معي ومع الگاطع . لقد دخلنا نحن الاربعة حالة الإنذار منذ الصباح، فمثلاً أوكلنا إلى سلام تدبير النشرة الورقية الملونة، وجلب قالب ثلج، مع طعام العشاء .. أما جابر فقد كان مسؤولاً عن توفير مسجل صغير وكاسيتات غنائية.. في حين كانت مسؤوليتي هي الأخطر، وهل هناك مسؤولية أخطر من توفير العرق وجلبه لمقر فرقة عسكرية في زمن الحرب، محاطة أبوابها وأسوارها بعيون استخبارية وامنية.. لكني رغم ذلك نجحت بتدبير قنينتَي عرق زحلاوي، مع لبن ماستاو .. وهكذا شربنا نخب الحزب العظيم، وأنشدنا قصائدنا وأغنياتنا عن فهد وسلام عادل وبقية شهداء الحزب الشيوعي العراقي,في أخطر حفلة بل مغامرة. لقد كانت واحدة من أحلى الليالي في حياتنا فعلاً، لكنها الأخطر أيضاً، إذ كنا سندفع حياتنا ثمناً لأي خطأ بسيط قد نرتكبه في تلك الليلة المجنونة ..!
*
اضافة التعليق