بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي
قبل أيام قليلة سألتني ابنتي ( زهراء)، وهي ترى شقيقها (علي) يعلق علمين كبيرين، على سطح منزلنا، أحدهم أسود، والآخر أحمر، قائلة : بابا لماذا يعلق ( علاوي ) هذين العلمين ..؟ قلت لها : لأن غداً سيكون الأول من محرم (عاشوراء). لم تقل ابنتي شيئاً، إنما نظرت لي بعينها وكانّها تريد المزيد من التوضيح.. فاضطررت إلى أن أقول لها: إن تعليق الإعلام السود فوق المنازل في ذكرى عاشوراء، يرمز للحزن والحداد على استشهاد الإمام الحسين في معركة كربلاء كما تعلمين .. وهو تقليد دأب العراقيون على أدائه منذ مئات السنين .. أما الأعلام الحمر فهي تمثل لون دماء الإمام الحسين الطاهرة، وأصحابه الشهداء التي سالت في أرض كربلاء، وهي ترمز للتضحية والفداء في سبيل الحق والعدل والحرية .. صمتت ابنتي أول وهلة، لكنها التفتت لي وقالت كلاماً مفاجئاً وصادماً : أنت تعلم يا أبتي أن أسرتنا - باستثناء والدتي - ليست متدينة، سواء أنت أو حتى أخوتي .. فهل تعتقد أن هذا الأمر طبيعي ومنطقي؟! قلت لها : أيّ أمر ؟ قالت: أن نعلق الأعلام السود والحمر فوق منازلنا في أمريكا، ونقيم مراسم العزاء والحزن في شهر عاشوراء، ونطبخ في بيتنا ( الهريسة ) ونوزعها على الناس، وغير ذلك من الطقوس التي يمارسها عادة المتدينون ؟! فوجئت، بل وصدمت حين سمعت كلام ابنتي وسؤالها الاعتراضي هذا، وسبب صدمتي من تفسيرها يعود لعدة نقاط، منها، ما يتعلق بها شخصياً، من حيث مستواها العلمي والثقافي، ومنها ما يتعلق بتربيتي لها، فهي أولاً واعية جداً، وقارئة نهمة، ومثقفة، ولها عدة أنشطة سياسية، ومواقف، ومساهمات احتجاجية متقدمة ضد العدوان الصهيوني على غزة، فضلاً عن كونها خريجة ( إعلام ) من إحدى أفضل الجامعات في العالم، ولديها قناة تحليلية (باللغة الإنگليزية)، تعرض فيها بين فترة وأخرى موضوعات كبيرة ومهمة، وهناك عدة نقاط إيجابية أخرى في حياتها وشخصيتها لا يسع المجال لذكرها هنا .. ناهيك من حسن ( تربيتي ) لها ولإخوانها، وهي تربية تركزت على ثلاث قواعد: قاعدة الوطنية التي لايمكن التنازل عنها مهما كان الثمن، وقاعدة احترام الآخر والاعتزاز بالقيم والموروث والعقائد بمختلف أنواعها، وأخيراً قاعدة الإيمان بحق الإنسان أينما وكيف كان. لذلك كان سؤالها مفاجئاً وصادماً لي جداً.. لكنها، وقبل ان اجيب على سؤالها، ابتسمت لي وقالت بلطف مبالغ فيه: بابا أرجو ان لا تزعل عليّ، فأنا أشعر بالألم لأن المشكلة ليست فردية او محددة بنا، إنما هي مشكلة تكاد تكون عامة، إذ يعاني أغلب أبناء مجتمعنا العراقي من ازدواجية في العلاقات والحب والولاء واتخاذ القرارات، وفي المعايير والقياسات الصحيحة أيضاً، فبعضهم مثلاً يمارس المراسم والطقوس الدينية بقوة، وهو أبعد ما يكون عن الدين وأركانه والتزاماته بل وقد يكون ملحداً حتى ! ولأن القضية كما قلت لا تتعلق بنا فقط، إنما هي قضية عامة، تجدني متألمة جداً من هذا الأمر المشاع.. وكي تفهم قصدي أكثر، فأنا مثلك (حسينية الروح)، وإن الإمام الحسين قدوتي، وثورته التحررية العظيمة دليلي في ظلمة الحياة، وأنا لست متدينة مثلكم أيضاً.. لكني عرضت السؤال على حضرتك، ولا أريد منك سوى معرفة تفسيرك لهذه الظاهرة الإشكالية المعقدة التي يصعب فهمها وحلها !
ضحكت وأنا أعرف أنها قد تحاول التخفيف من حدة الأثر الذي تركته في نفسي بسبب كلامها الصادم هذا.. فقلت: دعيني اولاً أسألك عن تفسيرك لظاهرة المناضل الشيوعي جيفارا، وصوره الموضوعة على عشرات ملايين التشيرتات والقمصان التي يرتديها حشود الشباب والطلبة في جامعات أمريكا والعالم، وهل يا ترى أن كل هؤلاء الطلبة والشباب هم شيوعيون مثل جيفارا ؟ وهل تعلمين مثلاً أن الكثير من السياسيين والقادة في الكرة الأرضية ارتدوا قمصاناً تحمل صورة المناضل جيفارا للتعبير عن ثوريتهم وجرأتهم السياسية وهم ليسوا شيوعيين قطعاً، ومن بين هؤلاء الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الذي ارتدى تي شيرت يحمل صورة جيفارا .. فكيف تجيبين على هذا السؤال الملتبس، بل وكيف تفسرين مشهداً فيه صورة مناضل شيوعي تزهو على صدر رئيس أقوى دولة رأسمالية وإمبريالية في العالم ..؟! لاشك- والكلام لم يزل لي - أن كل هذا يحصل لأن أوباما أو غيره من عشرات الملايين في أمريكا وبلدان العالم يرون في جيفارا نموذجا فذاً للنضال من أجل عالم أكثر عدلاً في مواجهة القهر والإقصاء، والرأسمالية التي لا يردعها رادع، ولا يمنعها مانع بعيداً عن دينه ولونه، ومذهبه الاجتماعي والثقافي .. لذلك يرى الكاتب المكسيكي (كاستانييداس) أن شعبية وشهرة جيفارا لم تُمسّ رغم مرور أكثر من نصف قرن على إعدامه، بل على العكس، فقد تزايدت هذه الشعبية وباتت نوراً ساطعاً في طريق النضال الوطني لشعوب العالم.. وكما يرى هذا الكاتب فإن جيفارا بات سبباً فاعلاً لثورة ثقافية واخلاقية في العالم الغربي، مختتماً رأيه بقوله:“من بعد تشي، لم يعد العالم كما كان، و إن حركة الشباب التي انطلقت العام 1968، أي بعد أشهر من إعدامه، استلهمت روح جيفارا، لتتغير بعدها العلاقات بين الرجل والمرأة، والطلاب والأساتذة، وبين السود والبيض، والأغنياء والفقراء، و ما زالت حتى يومنا هذا .. إن جيفارا اليوم أصبح أيقونة تجسد قيم العدالة الاجتماعية والحرية، ومقاومة الظلم والطغيان بصورة لا ينازعه فيها أحد". قاطعتني ابنتي وهي تقول: العفو يا أبتي، ماذا تريد القول عبر هذه المقارنة؟! قلت لها: هي ليست مقارنة قطعاً، فالحسين لا يقارن، إنما هي مثال ليس أكثر، " والأمثال تضرب عادة ولا تقاس "، كما يقال، فأنا أردت القول إن ملايين الناس الذين يحبون جيفارا ويقتدون به، و يحتفلون بيوم ميلاده، او الذين يزورون (المغسلة) التي عرض فيها جثمانه أول مرة في بلدة ( باييغراندي) في بوليفيا، واولئك الذين أضاؤوا ويضيئون أركان تلك المغسلة بملايين الشموع سنوياً، لم يكونوا شيوعيين أبداً، إنما فعلوا ذلك تقديراً لذكراه، واعتزازاً بتضحياته العظيمة حتى أن فيهم من يختلف مع الفكر الشيوعي أصلاً، لكنهم جميعاً يتفقون معه في هدفه، ويقتدون بالمثل النبيلة التي ناضل من اجلها واستشهد لأجل تحقيقها قبل 58 عاماً.. وهكذا هو حالنا مع الإمام الحسين، فهو الذي ضحى بحياته وحياة أسرته واصحابه من اجل تحقيق العدالة وإسقاط دولة الظلم والطغيان الباغية، ولم يسعَ الحسين نحو تحقيق هدفه السامي بالخطابات والأدعية، إنما ذهب بنفسه حاملاً سيفه من أجل ذلك .. إذن ليس غريباً أن نجد بين صفوف الجمهور العاشق للحسين، مسلمين وغير مسلمين، ونجد متدينين وغير متدينين أيضاً، وهو أمر جميل وصحي تماماً.. وجيفارا الذي يحبه الناس ويقتدي به الملايين رغم اختلاف أديانهم وعقائدهم هو تلميذ نجيب ولامع في مدرسة الحسين الثورية، ورفيقه في طريق الحرية وإن اختلف عصراهما.. لذلك بقي الحسين خالداً، وسيبقى خالداً مادام في الدنيا ظلم وطغيان وطغاة، وسيبقى جيفاراً خالداً أيضاً مادام في هذا الكون فقراء وأطفال جياع ومسحوقون. فطريق الحرية والفداء والثورة الذي سلكه جيفارا، هو ذات الطريق الذي سبقه اليه الإمام الحسين، ماشياً به وحيداً فريداً في كربلاء، حتى استشهد غريباً مدمّىً، فظل عطر الحسين عالقاً في ذاكرة الزمن، وظل نوره الأبدي الساطع الوضّاء دليلاً ومناراً لكل من يأتي بعده من الأحرار والثوار، وها هم ملايين الأحرار يمضون في طريقه رغم اختلاف أديانهم ومذاهبهم وعقائدهم وألوانهم وأعراقهم .. نعم، هم يختلفون في ما بينهم، ونحن أيضاً نختلف مثلهم، لكننا جميعاً نلتقي عند محطة الحرية والعزة والكرامة والعدل والإباء التي أضاءها الحسين بدمه الطاهر الشريف ..! فلا تستكثري على أبيك او أخيك أو على ملايين المحبين من غير المتدينين لو علقوا اليوم أعلام ثورة العدالة الحسينية فوق سطوح منازلهم في شهر عاشوراء، فالحسين مثل الهواء مشاع لكل الناس، وحبه ملك وحق للجميع، ولم يكن يوماً حصراً بأحد مهما كان .. فلتُرفعْ أعلام ثورة الحسين فوق سطوح منازل العراقيين جميعاً دون استثناء، مادامت هذه الأعلام ترمز للحرية والحق والعدل و ( النزاهة) ..!
*
اضافة التعليق