بين البابا والمرجع: عبقرية الدين وسقوط الجغرافيا

بغداد- العراق اليوم:

ضياء ابو معارج الدراجي 

حين يُعلن في الفاتيكان عن اختيار بابا جديد، تتوجه أنظار العالم إلى تلك الشرفة الشهيرة حيث يتصاعد الدخان الأبيض إيذانًا بولادة قائد روحي جديد لملايين المسيحيين حول العالم. لا أحد يسأل عن لونه أو لغته أو جنسيته. البابا السابق أرجنتيني، وقبله ألماني، ومن قبلهم جنسيات مختلفة: هولندية، إفريقية، سورية، لبنانية، فلسطينية... ومع ذلك ظل الكرسي البابوي محل إجماع وطاعة واحترام، دون أن نسمع صوتًا يشكك في شرعيته أو يُقلل من شأنه لأنه لا يحمل جواز سفر إيطاليًا أو لا يتحدث بلكنة محلية.

في المقابل، يقف العراق مذهولًا أمام نفسه، ممزقًا بخطوط لم يرسمها الدين، بل صنعها الجهل والتعصب وضيق الأفق. في عراقنا، يطرح البعض سؤالًا شاذًا في أصله: هل المرجع عربي أم أعجمي؟ هل لغته الأم فارسية أم أردية؟ وكأن العلم يُقاس بالهوية، والاجتهاد يُوزن بالجنسية، والتقوى تُفلتر بلكنة اللسان.

المرجعية الدينية، في جوهرها، ليست وظيفة وطنية ولا تمثيلًا قوميًا، بل هي مقام علمي ديني يُبنى بالجهد والورع والذكاء العلمي والفكري. الأعلم ليس من يتحدث بلهجتنا، بل من يحمل فكرًا نقيًا، ويملك أدوات الاجتهاد، ويقود الأمة إلى النجاة بعلم ودراية وأمانة. الدين، كل دين، نزل للناس جميعًا، وليس حكرًا على لغة أو أرض أو دم.

عبقرية الفاتيكان ليست فقط في هيكلية انتخاب البابا، بل في ثقافة أتباعه الذين أدركوا أن الزعامة الروحية ليست مرهونة بعلم الجغرافيا. وحنكة المرجعية الشيعية عبر القرون، تمثلت في بُعدها عن التعصب القومي واحتضانها للأعلم، أيًا كانت قوميته. لكن المشكلة تكمن في بعض العقول التي تحاول إقحام الانتماء القومي في موضع لا يحتمل إلا الانتماء للحق.

لو كان علم الدين يُقاس بجواز السفر، لانهار الدين من زمان. ولكن الدين – كل دين – قائم على القلوب والعقول، لا على الأوطان والأسماء. المرجع يُتبع لأنه أعلم، لا لأنه ابن عشيرتي، ولا لأنه يتحدث كلماتي. وكما لم يُقال "البابا ليس منّا"، يجب أن لا يُقال "المرجع ليس من بلدنا".

فلنكن بمستوى الوعي الديني، لا بمستوى التعصب الطائفي أو القومي. فالدين أوسع من حدود، وأسمى من جنسية.

علق هنا