محاربة الفساد في العراق بين الشعارات الموسمية والحلول الواقعية

بغداد- العراق اليوم:

الفريق الركن أحمد الساعدي

الفساد في العراق لم يعد مجرد ظاهرة عابرة يمكن معالجتها بخطابات حماسية أو لجان شكلية بل أصبح بنية موازية للدولة تنهش في مفاصلها وتُضعف مؤسساتها وتضرب ثقة المواطن في القانون والعدالة فالمواطن العراقي يشعر أن القانون لا يُطبّق إلا على الفقراء والضعفاء بينما يحظى الفاسدون الكبار بحصانة المنصب أو الولاء السياسي

ومع اقتراب كل دورة انتخابية تتجدد الشعارات وتُرفَع اليافطات وتُذرف دموع التماسيح على الفقراء وكأن السنوات الماضية لم تكن كافية لتصحيح المسار لكنها كانت في حقيقتها منصات لإعادة تدوير ذات الوجوه التي شاركت في صناعة الأزمة ونهب المال العام وتحصين شبكات السلطة بالحصانة والنفوذ

إن مكافحة الفساد لا تتحقق بالخطب التلفزيونية أو بالمزايدات السياسية بل تحتاج إلى خارطة طريق واضحة المعالم تبدأ بإرادة سياسية صادقة تُجرِّم الرشوة والاختلاس واستغلال المنصب وتضمن الحماية القانونية للشهود والمبلغين من الانتقام سواء أكان سياسياً أو عشائرياً أو وظيفياً ولا يمكن لأي جهة حكومية أن تخوض هذه المعركة وحدها دون مشاركة حقيقية من المجتمع المعركة ضد الفساد هي مسؤولية وطنية شاملة تتطلب تعاون الجميع من مؤسسات الدولة إلى الإعلام المستقل إلى منظمات المجتمع المدني إلى المواطنين أنفسهم وعلى العشائر أن تتخلى عن حماية أبنائها الفاسدين وألا تتستر على المجرمين لأن التستر على الفساد هو شراكة في الجريمة ضد الوطن العراق ليس أول بلد يواجه الفساد فثمة دول نجحت في مواجهته من خلال خطوات جريئة وتجارب عملية يمكن الاستفادة منها مثل سنغافورة وإستونيا وبوتسوانا التي بدأت بإصلاح القضاء وتحصينه من التدخلات السياسية واعتماد قوانين صارمة تُحاسب الجميع بلا استثناء كما لجأت بعض الدول إلى توظيف التكنولوجيا لمنع التماس المباشر بين المواطن والموظف فالهند خفضت نسب الرشوة عبر رقمنة المعاملات وجورجيا حدّت من التلاعب بالعقارات باستخدام تقنية البلوك تشين بينما أتاحت النرويج للناس تتبع أموال الدولة من خلال بوابات إلكترونية مفتوحة في العراق تتآكل الدولة من الداخل تحت وطأة ما يُعرف باللجان الاقتصادية التي حولت كل صفقة وكل مشروع إلى حلبة لتبادل المنافع بين أطراف متنفذة ومن يرفض الدخول في هذه المنظومة يُقصى ويُعاقب حتى باتت بيئة الاستثمار طاردة وانعدم الأمل بأي إصلاح حقيقي

اللافت أن بعض السياسيين الذين يظهرون على الشاشات للتباكي على حال الفقراء هم أنفسهم من كانوا بالأمس جزءاً من منظومة الفساد يتحدثون عن النزاهة بينما لم يقدم أحدهم كشف حساب واحد عن الأموال التي هُدرت أو المشاريع التي تعطلت أو الموازنات التي تم نهبها وهم اليوم يعيدون تسويق أنفسهم كمنقذين في مشهد يبعث على السخرية والأسى

المعركة الحقيقية ضد الفساد لا تُخاض من فوق المنصات بل في الشارع وفي غرف التحقيق وفي صفحات الإعلام الحر وفي تقارير الصحافة الاستقصائية التي تفضح التجاوزات وتُسلط الضوء على ملفات الفساد وعلى الدولة أن تفتح المجال أمام المواطن ليكون شريكاً فاعلاً في الرقابة والمساءلة من خلال منصات رقمية وآليات قانونية واضحة إن العراق لا يعاني من نقص في الموارد ولا في الكفاءات بل يعاني من غياب القرار الوطني الجريء الذي يقطع الحبل السري بين السلطة والفساد ويعيد تعريف الخدمة العامة بأنها تكليف لا وسيلة للإثراء والمنصب بأنه أمانة لا مكافأة إن الفساد لم يعد مجرد جريمة إدارية بل أصبح تهديداً وجودياً للدولة ومستقبلها إذا لم تتحرك مؤسسات الدولة بإسناد شعبي ومساعدة دولية جادة فإن كل حملة انتخابية ستبقى مناسبة لتكرار نفس المسرحية وسنظل نرى نفس الممثلين يخرجون من الكواليس يرفعون أوراق الإصلاح ويبكون على جياع الشعب بينما يخفون خلف الستار صناديق المال المنهوب وجوازات السفر المزدوجة واتفاقات الولاء للأجنبي الفساد في العراق لم يعد رقماً في تقرير بل أصبح واقعاً يمزق حياة الناس ويهدد كيان الدولة والأخطر من ذلك أنه بدأ يغيّر ثقافة المجتمع حتى صار البعض يعتبر الفساد شطارة والتجاوز قوة وهنا تكمن الكارثة الحقيقية لقد كانت آمال العراقيين معلقة على التغيير لكن الذي حصل كان خيبة أمل كبيرة أصابت الشعب بالذهول وأثّرت في منظومته القيمية والاجتماعية وجعلته يشكك في جدوى أي إصلاح وهنا تصبح المواجهة أكثر تعقيداً لأنها لم تعد مع الفساد كفعل بل مع الثقافة التي تبرره والعقول التي تدافع عنه والمنظومة التي تحميه إن لم نتحرك الآن بجرأة وإخلاص فسنصل إلى لحظة نبحث فيها عن وطن في خرائط الذكرى لا في واقع الحياة.

علق هنا