بغداد- العراق اليوم:
جاسم الحلفي
ليس الصمت الذي يخيّم على العراق علامة رضا، ولا السكوت في الأحياء الفقيرة دليلاً على القبول أو الخضوع للأمر الواقع. فالسكون الظاهري ليس ضعفاً ولا استسلاماً، بل هو صرخة مكبوتة تعكس حجم القهر الذي تعرّضت له الفئات المنهوبة، التي جُرّدت من أبسط مقومات العيش الكريم، وسُلبت حتى أدوات الاعتراض والتعبير.
لقد أصبح الفقراء أسرى ظروفهم القاسية، في بلد تحكمه أقلية أوليغارشية تستحوذ على الثروة والسلطة، وتدير الدولة بمنطق الغنيمة، لا بمنطق المسؤولية. أما الاقتصاد، فقد تحوّل إلى ريعي متخلّف، لا يعرف تنمية وإنما يوزّع الريع بحسب الولاءات والمصالح الضيقة، ويعيد إنتاج التفاوت والظلم بشكل منهجي. فهو اقتصاد عطّل الإنتاج، وكرّس التبعية، وخنق كل إمكانية لنموٍّ متوازن أو عدالة اجتماعية. وهكذا تحوّلت الثروة الوطنية إلى أداة لتغذية الأقلية المتخمة، التي تدير الدولة كإقطاعية حديثة، حيث تُحتكر السلطة، ويُقصى المجتمع، وتُقصّر العدالة.
طغمة الحكم الطفيلية التي استباحت المال العام، ترى في الكتلة الاجتماعية الأكبر من الكادحين والمهمّشين عبئاً زائداً ينبغي تدجينه أو تجاهله، لا ضحايا جديرين بالإنصاف أو الاعتراف. انه اقتصاد بلا إنتاج، وسياسة بلا عدالة، وتنمية غائبة منذ عقود، بينما تتسع الهوة الطبقية بين أقلية نهّابة وغالبية مسحوقة.
فبحسب نتائج المسح الاجتماعي والاقتصادي لعام 2024 الذي نفذته وزارة التخطيط، بلغ متوسط دخل الفرد شهريا نحو 201 ألف دينار، بينما بلغ متوسط إنفاقه 248 ألف دينار، أي بعجز شهري يتجاوز 47 ألف دينار للفرد الواحد. هذا العجز لا يعكس فقط اختلال التوازن الاقتصادي، بل يكشف أيضاً عن انسداد الأفق أمام العائلة الفقيرة، التي باتت عاجزة عن توفير الحد الأدنى من احتياجاتها الأساسية. وما يزيد الطين بلّة، أن نسبة الفقر في عموم العراق بلغت 17.5بالمائة، مع تفاوت كبير بين المحافظات، حيث سجّلت المثنى أعلى نسبة بلغت 40بالمائة، في حين لم تنخفض النسبة في العاصمة بغداد دون 13 بالمائة. وهي أرقام تفضح الخلل العميق في بنية الدولة، وتضع علامات استفهام كبرى على جدوى السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتّبعة.
هنا، لا يحتاج الفقراء إلى لغة خطاب أو بيانات نارية. فقد صار الفقر نفسه بياناً طبقياً، يفضح طبيعة النظام الاقتصادي - السياسي القائم، ويكشف مدى اختلال ميزان العدالة بين من يملكون كل شيء، ومن لا يملكون حتى الحقّ في الحلم. انه نظامٌ لا يكتفي بإفقار الناس، بل ويشرعن الفقر ويزوّقه، ويحمّل الضحية مسؤولية ما لحق بها، في أبشع صور قلب الحقائق وتزييف الواقع.
ان الصمت الذي يلف مدننا ليس وراءه هدوء، بل قهرٌ متراكم، ووجعٌ عميق.
والهوة بين من يملكون كل شيء، ومن لا يملكون شيئاً، إذا بلغت مداها فلا تُسكن بالوعود، ولا تُدار بكلمات التهدئة، ولا تُرَقَّع بالمبادرات الفوقية.
وحين تصرخ الطبقات المسحوقة، سيكون لصوتها ثقل الجبال وهول الطوفان.
*
اضافة التعليق