أسئلة التلميذ وحيرة الحاخام

بغداد- العراق اليوم:

جاسم الحلفي

زار وفد من تلاميذ مدرسة في جنوب السويد كنيسا يهوديا، في إطار جولات ثقافية تهدف لتعريف التلاميذ بتنوع المجتمع السويدي وأطيافه الدينية المختلفة، واستكشاف قصص وطقوس مخبأة وراء الجدران الصامتة. وبينما كان أحد التلاميذ يتجول في أرجاء المكان، قاده الفضول إلى الحاخام ليسأله: هل يمكنني أن أتحوّل إلى الدين اليهودي؟

ردّ الحاخام بالنفي، فباغته الطفل بسؤال آخر نابع من براءة ذكية: لماذا تحتكرون الدين والجنة لأنفسكم؟ أليس الجميع سواسية أمام الله؟ تعثرت كلمات الحاخام، وحاول إرضاء فضول التلميذ، لكنه لم يستطع تطمين رغبته في بلوغ الحقيقة. ولم يكتف التلميذ بل طرح سؤالا ثالثا، أعمق وأشد وقعا: ولماذا لا تضع اسرائيل حدودا لدولتها؟

للحظة، بدا الحاخام حائرا أمام السؤال، وحاول استخراج إجابة شافية لكنه وقف عاجزا. ولاحظ التلميذ تردده، فعقب بصوت تخالطه نبرة المنتصر: يبدو أنكم لا ترغبون في السلام على الأرض، وتريدون احتكار الآخرة أيضا.

هكذا جسد موقف الحاخام السويدي أمام أسئلة التلميذ الذكية أزمة فكرية وثقافية، تتجاوز إطار الحوار العابر لتكشف عن مأزق أعمق، يواجه الفكر المحافظ والمتطرف، الذي يقف في مواجهة مجتمع قائم على الشفافية والانفتاح. هذه الحيرة تردد صداها عند الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، التي ترى في الأزمة الأخلاقية مبررا للتوسع وسعيا محموما للهيمنة.

أزمة تترجم نفسها على أرض الواقع في صراعات تتخطى حدود غزة وجنوب لبنان، وتتسع لتشكل مشهدا عالميا تسعى فيه قوى الهيمنة إلى فرض سيطرة أحادية، لا تعترف بالتنوع ولا تقرّ بأي حدود تعيق مدّها الأذرع الاستيطانية.

في هذا السياق، يبدو حلم السلام عبر مفاوضات تقود إلى استقرار دائم أقرب إلى السراب، في ظل إدارة اليمين الإسرائيلي المتطرف. فالسلام له شروط، ويتطلب إرادة صادقة وقيادة تحمل ثقافة سلام ورؤية خيارات سلمية، وإدراك أن السلام الحقيقي قائم على مصالح متبادلة لا تستند فقط إلى موازين القوى، بل أساسها الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة وعاصمتها القدس.

غير أن الحكومة الإسرائيلية الحالية، بطبيعتها المتشددة واساليبها الفاشية، تمثل أزمة مركبة: أزمة حكم وأزمة فكر لا يقرّ بحدود للتوسع، ولا يدرك أن مصادرة شبر من الأراضي المحتلة، يزيد الأحقاد ويعمق النزاعات ويغلق بابا للأمل.

لكن .. ومهما بلغت قوّة إسرائيل، فستأتي لحظة تجد فيها نفسها محاصرة تحت وطأة ضغوط متصاعدة، تدين ممارساتها، وتدعوها إلى إحقاق العدل.

ولعل تجربة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا تقدم درسا عميقا للعالم؛ ذلك النظام الذي حظي بدعم واسع من دول كبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا، حتى بلغ نقطة تحوّل، أجبره فيها العالم على الاعتراف بعدم أخلاقية هذه السياسة، وعلى إعادة الحقوق للشعب المضطهد.

وفي ليلة فارقة في التاريخ، وبعد نضال طويل وتضحيات عظيمة، استرجع شعب جنوب أفريقيا كرامته وحقوقه، واسترد حريته السليبة.

علق هنا