في وداع القائد الجسور أبو رائد

بغداد- العراق اليوم:

جاسم الحلفي

عند السؤال عما دفع كبار وجهاء قرى الحويجة للتوجه إلى أربيل، وتحمل عناء السفر من قراهم البعيدة لتقديم واجب العزاء مرة ثانية بفقدان رفيق الدرب، القائد الانصاري الفريق نعمان علوان سهيل، اتضح انه لم يكن سهلا عليهم الاكتفاء بحضور مجلس العزاء عقب مواراة الفقيد الثرى. فقد خلّف رحيله فيهم أثراً عميقاً، رغم أنه لم يكن من طائفتهم ولا من مناطقهم أو عشائرهم، في وقتٍ صارت فيه الطائفية السياسية والعشائرية والمناطقية تُستخدم كأدوات للتقسيم والانحياز الضيق.

وبالامكان تفهم موقفهم هذا عند سماعهم يتحدثون عن وطنية الفقيد، ووقوفه الى جانبهم أثناء نزوحهم من قراهم غداة هجوم داعش. فقد فتح مكتبه وبيته لهم، وقدم لهم كل ما استطاع بكرم وطيب خاطر، وأنصت اليهم حتى في أصعب الأيام وأشدها وطأة على نفسه. نعم، عندما تصغي لكلامهم المؤثر عنه، تنكشف أمامك أمور كانت خافية ربما، وتشعر بفخرٍ لا يوصف لكونه رفيقك، ولامتلاكك ذكرياتك الخاصة معه في اصعب الظروف وأخطرها.

لقد عشت معه لحظاتٍ حاسمة في مسيرتنا الكفاحية، لحظات قرارات مصيرية لا مجال فيها للاجتهاد، لحظات قراراتٍ فورية: اما قبول الهزيمة وضمان الحياة، أو اتخاذ الموقف المشرف وتحدي مخاطره المميتة. حيث عشنا لحظات الخطر الأقرب إلى الموت، ونحن نواجه بنادق الحليف الذي خان رفقة السلاح.

تعود بي الذاكرة الى إحدى مآثره البطولية التي لن أنساها ما حييت. ففي معركة بشتاشان الثانية، وكان الراحل قائدها، واجهنا قوات حليفنا الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي حوّل فوهات بنادقه من صدور مرتزقة الدكتاتورية الى ظهور رفاق السلاح، مدعوما بإمكانيات السلطة لوجستيا، وبأسلحة متطورة لم يكن بإمكان أسلحتنا الخفيفة مجاراتها، ومسنودا بالمرتزقة انفسهم. ولهذا ولعوامل أخرى، اختلت كفة المعركة لمصلحة العدو، فاخترق جبهتنا، وحدثت انسحابات ارتجالية أثّرت على سير المعركة بالمجمل، واصبح الانسحاب من المعركة هو القرار الارجح.

عندها وقف الرفيق أبو عايد، وهو الاسم الحركي للفقيد، وقال بصوتٍ قاطع باتر: "لا انسحاب قبل تأمين طريق انسحاب رفاقنا الثلاثة، قادة فوج بهدنان، أو معرفة مصيرهم".

هؤلاء الرفاق: نزار ناجي (أبو ليلى)، والدكتور غسان عاكف (دكتور عادل)، و جبار شهد (ملازم حسان) كانوا من أبرز وأهم كوادر الحزب العلمية والسياسية، وقد رفضوا الانسحاب قبل تأمين خروج آخر رفيق من فوجهم. غير انهم وقعوا في كمين محكم واستشهدوا برصاص الغدر.

في تلك اللحظة الفارقة، سارعت بتنفيذ ما أمر به أبو عايد بكل دقة، رغم ان العثور على من يبادر من قواتنا الى التقدم صوب العدو كان بالغ الصعوبة، بعد ان تجلت الفوضى وضعفت المركزية. لكن لم يخب ظني بالرفيقين كمال جبار (أبو حياة) وجاسم الموسوي (بهجت)، اللذين اخترتهما معي للتقدم نحو قوات العدو والسعي لاختراقه، في تحدٍ جنوني للموت. وكان أبو عايد والقلة الباقية معه، بينهم بعض رفاقنا من فصيل بولي، يغطون تقدمنا بكثافة نيران هائلة، وبشجاعة لا مثيل لها، حتى تمكنّا من الوقوف عند جثامين رفاقنا الطاهرة.

كان ذلك الموقف بذاته كفيلاً بإظهار معدن فقيدنا الأصيل، وشجاعته التي لا تعرف الحدود، ومدى حرصه على مصير الرفاق. حيث آثر المجازفة لأجل ان يطمئن على مصير رفاقه، ولم يبال بالخطر. فهو لم يكن يخشى الموت، وكان قلبه مفعما بروح التضامن وتحمل المسوؤلية.

ولم تكن تلك المأثرة لحظةً عابرةً في حياته، وانما كانت تجسيداً لمعنى البطولة الحقيقية. وقد تعلمنا منها أن الشجاعة ليست كلمة مجردة، بل هي أفعال تجسدها المواقف الصعبة، وتظل خالدة في ذاكرة الزمن.

وداعاً أبا رائد، يا من كنت رمزاً للشجاعة والجسارة.سنظل نتذكرك بمآثرك البطولية، ونستلهم منها القوة لمواصلة المسيرة على درب كفاحنا، من أجل عراقٍ حر كريم وعادل.

علق هنا