بغداد- العراق اليوم:
جبر شلال الجبوري
— بدايةً أودّ أن أحيطَ القارئَ علماً بأنّ كثرةَ كتاباتي عن منطقة الكريعات وأهلها الطيبين الذين، تأتي من خلال التجربة الحياتية الطويلة التي عشتها في المنطقة وما تعرّضت له من الإهمال التام لها من قبل السلطة البعثية الفاشية التي حكمت العراقَ طوالَ عقود، وما رافقَ ذلك من ملاحقة أبنائها سجناً وتعذيباً وإعداماً بحيث لم يخلُ بيتٌ فيها من شهيدٍ معدوم أو سجينٍ مظلوم أو مُغَيَّبٍ منذ بدء الحقبة الدموية البعثية ولغاية اليوم حيث لم يُكشَف عن مصيره، ولو أتيحت لي الفرصة الكافية لكتبتُ عن كل شخص من أبناء تلك البيوت بما يفيه حقُّهُ من التعظيم والإجلال عرفاناً بتضحياتهم، حيث أنّ لكلّ شخص منهم قصة في مجابهة الطغيان البعثي الإجرامي. الكريعات فقدت شباباً لم ينجب الزمن مثلهم إلّا ما ندر، فهم أهلُ الدين والعفّة والشرف، رجالٌ صدَقوا ماعاهدوا اللهَ عليه فمنهم من قضى نحبَه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا، وفي مقالتي هذه سأتناولُ سيرةَ شخصٍ عشت معه سنينَ طويلة وخبرتُه وعرفته عن قُربِ حيث كان ابنَ عمّي وصِهري، إنه (ابراهيم عيد حسن حمد الجبوري) من مواليد بغداد - الكريعات عام ١٩٤٥، أكملَ الدراسةَ المتوسطةَ في ثانوية الشماسية، ثمّ ترك الدراسةَ وتفرّغَ للعمل في بستان والده (الحاج عيد) حتّى وفاته, ينحدر من عائلة معروفة ووجيهة وكبيرة، قدّمت عدداً من الشهداء الأبرار الذين أعدموا في ثمانينيات القرن الماضي على يد جلاوزة البعث النافق، فهو عمّ الشهيد (طارق حسين عيد) ــ الذي سأكتب عنه قريباً في مقالٍ مُنفصل ــ الذي استشهد في أهوار الناصرية أيام الانتفاضة الشعبانية المباركة في ( قرية الفهود ) ، وعمّ الشهداء سعدي علي عيد ، وبرهان حمزة عيد، المرحوم أبراهيم عيد متزوج من بنت (الشيخ شلال محمد الجبوري) وقد أنجبت له ولدان هما (علي) و (المرحوم الشاب جعفر) وأربع بنات ، ابراهيم عيد، أكثر الأشخاص اعتقالاً في الكريعات من قبل سلطة البعث الفاشية، تشرّبتْ في روحه وضميره، الوطنية وحُبّ العراق على مدى لا حدودَ له فكان جبلاً من العشق، وبسبب ذلك الحُبّ دفعَ حياتَه الشريفة ثمناً غالياً، كما كان من عُشّاق الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم، وبسبب ذلك اتُّهِمَ في ريعان شبابه (بالشيوعية) وسجن في بداية انقلاب البعثيين الأراذل مع ابن خالتي الشيوعي المخضرم المرحوم (رسول علي رزوقي العزاوي ) وكان ذلك أوّلَ أعتقالِ لهما بعد حلّ الجبهة الوطنية. إبراهيم عيد، كان مؤمناً ومواضباً على الصلاة وملتزماً بشرع الله وحُب الائمة ألاطهار ، يكرهُ البعثيين كرهاً شديداً بسبب محاربتهم للدين وخصوصاً الشعائر الحسينية، كان هو وأصدقاؤهُ يلتقون في مقهى (موفق يوسف) ويسخرون من البعثيين ويطلقون عليهم (النكات) التي يستحقونها، ولازلت أذكر جمعتهم الكريمة، وكأني أرى اليوم تلك الشخصيات الودودةَ أمامي، فذاك: صبيح يوسف ، وهذا محمد علي لطيف ، ومعهما هادي خلف سلمان (الملقب هدّو) وبجنبهم حاج رضا عبد الله (من بيت دلو ) الذي اعتُقل عدّة مرات مع ابراهيم عيد، وكان الحاج رضا شخصية مُذهلة في دماثة أخلاقه والتزامه الديني، وصادق حسين هيلة، وصبري عبد أمونة، ومزهر ومبدر (ابنا ملا منصور) وعقيل جبار وغريب البدوي ، والكابتن ابراهيم جاسم، والأستاذ محمد علي حسون الحبيب، رحمَ اللهُ الراحلين منهم وأطالَ بعمر الباقين، فلم يرق للبعثيين ذلك التجمُّع فمنعوهم من ذلك. في ثمانينيات القرن الماضي كانت هناك حملة واسعة ضدّ المؤمنين في الكريعات، حيث الاعتقالات بالجملة، ولم يسلم منهم أحد إلا ماندر، فتأثرت العوائل كثيراً بسبب ذلك، فمنهم من فقد معيله الوحيد ومنهم من فقد والده أو ابنه، فقام كلّ من المرحوم ابراهيم عيد والمرحوم الحاج رضا دلو، بتوزيع المواد الغذائية على عوائل المعتقلين شهرياً بواسطة سيارة ابراهيم التي كانت من نوع (بيكاب نيسان) وكان هذا العمل الخيّر وراء أعتقالهم لمدة سبعة أشهر متواصلة لم نعرف خلالها عنهما أيَّ شيء، وبعدها تمّ إطلاق سراحهما وهما في حالة يرثى لها حيث التعذيب والإهانات المتواصلة والموت البطيء. ثمّ توالت الاعتقالات والاستدعاءات الأسبوعية في مديرية أمن الأعظمية وهذه المرة بحجة أنتمائه لحزب الدعوه حتى يوم وفاته بتأريخ ١٧ / ٩ / ١٩٩٩ حيث توفّيَ (مسموماً) من قبل الأجهزة الأمنية، وكان قبل وفاته بأسبوع قد استُدعي إلى أمن الأعظمية وطلبوا منه أن يتحدث معي حيث كنتُ أعمل في صفوف المعارضة العراقيه ومن المعروفين فيها ومديراً لتحرير جريدة (حقوق الإنسان) في الأردن، وحدثني بارتباك شديد بحيث أحسستُ بأنه في موقف محرج أو مُعتقل ولم أتحدث معه سوى بالسؤال عن صحته وأفراد عائلته، وبعد الإفراج عنه تحدثت معه عن طريق بيت شقيقه المرحوم حسين عيد ، وقال لي إنه مريض جداً ويعاني من آلام شديدة في صدره وبطنه، وأوصاني بعائلته كثيراً وقد شعرتُ حينها بأنه مفارق للحياة عن قريب، وما هي إلّا أّيّام حتى جاءَني أولاد أخيه الحاج محمد حسين عيد وأحسان وأحمد وحسن وعدد كبير من أولاد عمومتي الذين كانوا يعملون في الأردن وقالوا لي: "البقاء في حياتك، وعظّم الله أجرَكَ في إبراهيم" فأقمت له مجلس عزاء كبير في بيتي بالعاصمه عمان مع كلّ أبناء الكريعات الغيارى الذين كانوا متواجدين هناك. رحمك الله يا ( أبا علي ) رحمك الله يا ( ابراهيم عيد ) وأنا على عهدي معك ومع عائلتك ولن أتخلى عنهم حتى ألقاك أخي وصهري وابن عمي، وعندما ألقاك سأروي لك حكايات كثيرة، فقد سقط المجرم صدام والبعثيون الأراذل وذهبوا إلى مزبلة التاريخ وهذا ماكنتَ تتمناه، لقد تزوج ولدك ( علي ) وأصبح له أبناء هم: جعفر ، وابراهيم، والكل فخورون بك، فأنت الرجل الذي يحبك الجميع، ويترحّم عليك كل الناس، فنم قريرَ العين في جنات النعيم، وسلام عليك وعلى جميع شهداء الكريعات الذين كانوا أعلى النخيل في بساتين المنطقة، والذي أتمنى أن يوفقني الله كي أكتب عنهم جميعاً إن شاء الله، فهم شرفنا وعزتنا وفخرنا، ولولاهم لما عُرفت الكريعات بهذه السعة .
ملاحظة مهمة : ممّا يبعث على المرارة، أنّ المرحوم ابراهيم عيد حسن الجبوري، ( أبو علي وزينب ) لم يُعتبر شهيداً من قبل الحكم الجديد، ولم يُعتبر سجيناً سياساً، وهو الذي قارع البعثيين ، ومن القلائل الذين لم تنجسهم البعثيه بأنجاسها ، ولم يحصل أهله على أيّ حقّ، كما لم يتمّ تعيين أي شخص من أفراد عائلته. والبقيّة في ذمّة المُختصّين بهذا الشأن …
المرحوم / أبراهيم عيد الجبوري
*
اضافة التعليق