كيف حول الاعرجي مستشارية الأمن القومي إلى عقل استراتيجي للدولة خلال فترة وجيزة؟

بغداد- العراق اليوم:

عملياً، بقي العراق منذ نشأته كدولة حديثة مطلع القرن الماضي، يفتقد بشكل جلي لمؤسسات إستراتيجية وطنية شاملة، تعمل على صياغة السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية و الأمنية، بل بقيت الدولة أسيرة الارتجالية و العشوائية و التخبط و غياب الرؤية الناضجة، و هذا ما تسبب بكوارث لا تعد ولا تحصى.

بل ساهم غياب المؤسسات الاستراتيجية ، مساهمة فاعلة في تحطيم معنى الدولة الحديثة بمفهومها الإجتماعي الفاعل، و غيب أيضاً خطط التنمية المستدامة، و أسهم في تلاشي الرؤى الطويلة الأمد، التي لو نفذت مبكراً لتحول العراق بطاقاته البشرية، و موارده الاقتصادية الغنية، إلى انموذج مزدهر في الشرق الأوسط برمته، لكن للأسف الشديد بقينا خارج تصنيفات تعاريف الدولة التي يجب أن تعيش و تستمر و تتطور.

في الواقع الأمني و الملف السياسي الخارجي، بقي العراق يعاني أيضاً من تسلط النظرة الشخصية، لمن يتولى المسؤولية في مواقع السياسة الداخلية أو الخارجية، فينعكس المزاج الشخصي أو الانتماء الفئوي، على أداء الحكومات، و تتحكم المصالح الشخصية في مسارات بناء الأولويات في العمل الدبلوماسي مثلاً.

بعد 2003 ، استبشر الجميع بأن عهداً جديداً قد جرى تدشينه، و أن الاتجاه و البوصلة تتجه نحو بناء دولة مؤسساتية، يحكمها دستور دائم، و تصوغ سياساتها، مؤسسات وطنية مختصة، و بالفعل لمسنا تحولاً نوعياً في عدة مجالات، كالاعلام و العمل الرقابي، و الفصل الجيد بين المؤسسات القضائية و التنفيذية و غيرها من ظواهر و تجليات الدولة الحديثة.

و بالفعل فقد تم تشكيل مؤسسة مهمة جداً بعد 2003، لكنها للأسف بقيت خارج دائرة التأثير و الدور المطلوب منها، و المأمول من تشكليها، ألا و هي مستشارية  الأمن القومي التي تولاها منذ تأسيسها الدكتور موفق الربيعي، الذي حولها لشديد الأسف إلى مقهى منسي في زوايا مهملة، و اختفت المؤسسة التي أريد لها أن تكون لبنة أساسية في مشروع بناء التكامل الشامل بين مؤسسات السياسة والاقتصاد و الأمن، بما يخلق فرصاً ذهبية أمام صانع القرار السياسي، و يوفر منظومة و مسار علمي، أمام الحكومات المتلاحقة في عهد ديمقراطي، يجب أن تصاغ قراراته بشكل احترافي، بعيداً عن لغة المصالح الضيقة، أو الفئوية.

لقد ضيع موفق الربيعي، فرصة ذهبية كما قلنا لإنضاج هذه المؤسسة التي حسبها مغنماً ذاتياً، و هدية من إدارة التحالف الدولي الذي أطاح بنظام صدام، كجزاء على خدماته التي قدمها إبان المعارضة. 

و هكذا ظل الرجل خاملاً، إلى أن غادر المنصب في عام 2009، و لم يختلف الحال مع تولي فالح الفياض المنصب، فالرجل الذي يشغل دزينة من المناصب العليا، لم يلتفت إلى أهمية هذه المؤسسة ومنحها ما تستحق، كما لم يسع إلى تطويرها بالشكل الذي أريد لها أن تكون عليه .

بل انتهت المؤسسة إلى أن تكون دكاناً حكومياً فاشلاً بشهادة الواقع قبل اي شهادة أخرى، و لكننا رأينا تحولا نوعياً هائلاً حدث منذ أعوام قليلة جداً، بعد أن تولى قاسم الاعرجي، هذا الموقع، إذ عمل الرجل ليل، نهار على استعادة الدور المفقود لهذه المؤسسة، و صاغ برؤية جديدة سياساتها، و وضع لبناتها بشكل علمي، أكاديمي، و أدار الرجل دفة هذه المستشارية بعد أن توقفت طويلاً، و رأينا و لمسنا أيضاً ،أن هذه المؤسسة بدأت تأخذ دورها بشكل فاعل في صياغة و تطوير  و دعم القرارات الحكومية بما يخدم الهدف المرجو منها، إذ تصاعدت نسب انجاز هذه المؤسسة، و أخذت المؤسسات و الوزارات الحكومية تستعين بالمستشارية بشكل واسع كي تستفيد من آرائها في اتخاذ الكثير من القرارات المناسبة .

نعم فقد طور الاعرجي بشكل نوعي التنسيق المشترك بين مختلف المؤسسات الأمنية التي أخذ عملها المؤسساتي يتنامى، و اصبحنا نسمع و نقرأ كل اسبوع او اكثر بقليل عن اجتماع أمني في المستشارية، أو حلقة نقاشية، أو ورقة عمل تصدر عن هذه الدائرة الحكومية التي أعادت الإعتبار لأهمية الاستراتيجيات والسياسات المفصلة، و أنهت فصولاً طويلة من العشوائية و غياب التنسيق.

ومن دون شك فإن وضع قاسم الاعرجي في هذا المنصب يمثل انطلاقة جديدة وقوية في عمل مستشارية الأمن القومي، و واصل الرجل عمله الدؤوب الذي بدأه في وزارة الداخلية التي حولها من مؤسسة بتراث قمعي، إلى مؤسسة أمنية مهنية، تعمل على مراعاة حقوق الإنسان، و تفعل المفاهيم و الاتفاقات الدولية المرعية في العمل الشرطوي، بل رأينا أن إدارته للوزارة اتسمت بالصرامة و الشدة من جانب إنفاذ القانون، و الرقة و اللين من الجانب الإنساني الذي اتسمت به إدارته للوزارة.

لذا يمكننا القول بضرسٍ قاطع، إن الاعرجي نجح نجاحاً كبيراً في بناء مستشارية أمن قومي لدولة ديمقراطية حقيقية، و يواصل الرجل مهامه بإخلاص و تفانٍ، و نأمل أن يستمر بهذا النشاط و الهمة العالية بما يخدم الوطن و المواطن العراقي.

علق هنا