درس بليغ متجدد

بغداد- العراق اليوم:

جاسم الحلفي

سبق ان شاهدت مسلسلا تلفزيونيا عنوانه “فوضى” على شاشة النتفلكس، في فترة الاعتكاف الاجباري الذي فرضته علينا إجراءات الوقاية من جائحة كورونا. واتضح لاحقا انه من انتاج إسرائيل، وكانت احداثه تجري في قطاع غزة، ورسالته خبيثة غايتها اظهار “جبروت” وتفوق المخابرات الإسرائيلية وارادتها التي لا تقهر. حيث جعلت من رجل المخابرات الإسرائيلي سوبرمانا قادرا على كل شيء، يتمتع بإمكانيات خارقة، ويستشعر العمليات الفدائية للفلسطينيين قبل تنفيذها. وجاء هذا المسلسل ضمن الحرب النفسية ضد الشعب الفلسطيني، التي تحاول زرع اليأس والقنوط عند الفلسطينيين، ودفعهم للاستسلام امام سياسات الاحتلال المذلة.

تخصص إسرائيل إمكانيات هائلة للحماية الوقائية من أي عمل مناهض للاحتلال والظلم والعدوان، وتنفق الأموال الطائلة لترسيخ احتلالها للأراضي الفلسطينية، مستنفرة أجهزتها المخابراتية كالموساد والشاباك، وجيش الاحتلال والشرطة القمعية. وتتخذ اقصى الإجراءات صارمة للحيلولة دون تسلل أي فلسطيني من غزة باتجاه المستوطنات.

وليس هذا وحده ما كانت تقوم به إسرائيل، فهناك ايضا الرصد عبر الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة (الدرون)، الى جانب دوريات المشاة والالية، والابراج، وزرع الجواسيس، وكل ما يستطيع استشعار العمليات الفدائية مسبقا. إضافة الى كل ذلك بنت الجدار العازل على حدود غزة بطول 65 كيلومتراً، بحيث يمتد إلى البحر، بعمق تحت الأرض يصل الى 25 مترا، فيما يبلغ ارتفاعه ما بين 6 إلى 10 أمتار فوق الأرض. وقد أطلق عليه “الجدار الذكي”، كونه مزودا بأجهزة رصد إلكترونية ومجسات استشعار وأجهزة تحسس وكاميرات حرارية، بحيث لا يمكن للطير ان يقترب منه. اما اختراقه عبر الانفاق فهو المستحيل بعينه.

لكن كل هذه الإجراءات تلاشت بلمحة بصر صباح يوم 7 تشرين الأول 2023، امام العبور الجسور، الذي كانت دوافعه مقاومة الاحتلال، والكفاح ضد الظلم. حيث باغتت جرأة الفلسطينيون وبسالتهم كل الأجهزة الإسرائيلية البشرية منها والتقنية، فعبروا صوب مستوطنات ومراكز الإسرائيليين امام ذهول هؤلاء، الذين سمّوا يوم الاقتحام “اليوم الأسود على إسرائيل”.

هكذا اذن فقدت كل الإجراءات الوقائية نفعها، وفشلت في توفير الأمان، وبل جعلت الرهبة والخوف تطغيان عند الإسرائيليين، مقابل طغيان نشوة “طوفان الأقصى” والشعور برفع الحيف عمن سلبت حقوقهم ظلما وعدوانا، جراء سياسات الاحتلال والاستغلال واللاعدالة، وكل ما أحاط المحتل به نفسه من تدابير للحماية والتحوط إزاء المدافعين عن حقهم المشروع في وطن مستلب، وهي تدابير تلجأ اليها عادة كل سلطة ظالمة فاسدة، خوفا من غضب الشعب المهضوم والمحروم من حقوقه.

وقد اثبت “طوفان الأقصى” ان الإجراءات التعسفية وجميع التحوطات التي يقدم عليها الظالمون والمحتلون، لا تصمد امام هبّة أصحاب الحقوق. فحينما احتلت واشنطن العراق، فعلت الامر ذاته، حيث تمترست قيادتاهما السياسية والعسكرية في منطقة استراتيجية واسعة من قلب بغداد، شملت منطقة كرادة مريم و أجزاء من حيي الحارثية والقادسية، اطلقت عليها اسم “المنطقة الخضراء” وسيّجتها بأحكام ووضعت على مداخلها نقاط تفتيش ومفارز عسكرية، وحصنتها بإحكام وحرمت على العراقيين الاقتراب منها ومنعتهم من دخولها، الا من يمتلك (باجا خاصا). واستمرت الحكومات اللاحقة على المنوال ذاته، لكن وكما اثبتت حركة الاحتجاج تهاوت حصون المنطقة الخضراء ذات يوم امام عنفوان الاحتجاجات وبسالة الشباب المحتج على الفساد والمحاصصة وتردي الخدمات.

يمكننا القول عن هذا كله انه درس كفاحي نوعي جسور، يضاف الى دروس الشعوب الحرة المتطلعة الى الانعتاق، والمكافحة من اجل الكرامة والعدالة الاجتماعية. وهي دروس لا تنضب، وتبين مرة بعد مرة ان لا تحصينات ولا تقنيات جديدة ولا عزل او مناطق محرمة ولا أي (جدار ذكي)، تستطيع إعاقة الشعوب والحيلولة دون اقتحامها قلاع المحتلين وقصور المستبدين وتحصينات الظالمين والفاسدين.

انه الدرس البليغ المتجدد باستمرار .. فهل تتعظ به الأنظمة الفاسدة والظالمة والناهبة للمال العام؟

 

علق هنا