بغداد- العراق اليوم:
علي علي
إثنان سطع نورهما عقودا في سماء العراقيين، لست أدري أيهما الشمس وأيهما القمر، فحين يتألق الإثنان في كبد السماء، ويسمو حضورهما إلى حيث المشاعر الجياشة، والأحاسيس المرهفة، يختلط الأمر رفعة وهيبة ورقيّا، حتى يُخيل لمن أراد وصف المشهد، أنه أمام أسطورة سريالية، يحياها معه الملايين من محبي الخير والإنسانية، ويعشقون الوطن وترابه.
ولكن، حين يغيب الإثنان -الشمس والقمر- وهما صامتان، إلا من همس أباح به جسداهما بكل شموخ وكبرياء، خلال سويعات لاتتجاوز يوما واحدا، فإن الصدمة تصبح أكبر منهما وأشد وقعا حد الذهول. فقد كان ينادي أحدهما:
أنا أكره الشكوى وأكره أهلها
والله يشهد أنني لصموت
عجّل فإن الصمت أخرس ضحكتي
واضيعتاه إذا الأوان يفوت
فيما كان الثاني ينادي بملء فيه: "هذا حدنا وبس بعد تايبين وللأبد". واختطفه الغياب وهو يشكو قائلا:
"يا ريل طلعوا دغش والعشك جذابي
دك بيّه طول العمر ما يطفه عطابي"
ماتقدم من سطور لم أخطها بقلمي، بل هي ماسال من جفوني حزنا وألما على قامتين عراقيتين، عاشتا حقبة تعد من أقسى الحقب وأكثرها مرارة على العراقيين، تلك هي حقبة الربع الأخير من القرن المنصرم، موصولة بأكثر من عشرين عاما عجافا من القرن الحالي. لقد رفعت هاتان القامتان راية الوداع الأبدي، بعد أن تركتا تراثا هائلا من جمال الكلمة والصورة والنغم، فضلا عن روحيهما اللتين ستبقيان تطوفان في فكر العراقيين وغير العراقيين.
إنهما القامتان ياس خضر وكريم العراقي، وهما اسمان لا تطال وصفهما ألفاظ التكريم وعبارات التبجيل، فكما عاشا بقامة مرفوعة، رحلا بمثلها، وكما قيل: (الأشجار تموت واقفة).
نعم، فيوم أمس رحل هذان الطودان الشامخان عن عالمنا، وإن تحدثنا عن الشاعر الملتصق بتراب وطنه، وعبق أرضه كريم العراقي، لن تكفينا مجلدات ضخام لسرد عطائه بالتفصيل، فقد عاش الوطن في لب اهتماماته وبيابي عينيه، وذاق الأمرين في حب عراقه، مع كل هذا عاش كريم كريما ومات كريما، وسيبقى ذكره كريما في ذاكرة العراقيين، وتشهد سيرته على عزة نفسه وإبائه، وصدق من قال: (الكبرياء تليق بالفرسان). لقد رحل كريم ودوي كلماته باقٍ يهز مشاعر الجميع:
أرأيت حياً ميتاً متفائلاً
متماسكاً وله الأماني قوتُ
هذا أنا سرقتْ شبابي غربتي
وتنكرتْ لي أعينٌ وبيوتُ
ياصاحبي أنا كالعراق ممزقٌ
أنا كالعراق بلا معين غدَوت
ولعل العراقيين قد ساق عليهم قدرهم يوم أمس، صدمة ثانية تفاقم صدمتهم برحيل كريم العراقي، إذ ماكادت تمر من الساعات مايكمل عد يومهم، حتى لحق بالعراقي الطود الشامخ الثاني ياس خضر، هذا الفنان الذي انحنت له العقود إجلالا وتكريما، ورفعت له الأجيال قبعة الحب والانبهار بما قدمته حنجرته، فضلا عن خلقه الرفيع وأدبه العالي، حيث التحق بصاحبه إلى حيث الخلود، تاركا صدى صوته صوت الأرض صادحا بما يُشبع ذائقة الكثيرين، فترجّل عن الريل وأعلن فراقه الأبدي عن حمد، قاصدا حقول البنفسج، ملتحقا بالراحلين قبله وهو ينادي: (مسافرين وعيني مشدودة لدربكم).
*
اضافة التعليق